دائما ما ننشغل بالغيب ، و نسرف فى تعلقنا بالغيبيات ، ربما لأننا جميعا نشترك فى شىء واحد ، و هو الخوف من المجهول ، و التطلع دائما للمستقبل ، و هو ما يدفع الكثيرين إلى الإعتقاد فى الخرافات و الدجل ، و ملاحقة المشعوذين
.
و علم الروحانيات أو الإتصال بالأرواح جزء من هذه الخرافات ، التى يتعلق بها كثيرون ، و هو ما جعلنا نخترق هذا العالم المثير و الغريب ، فى تجربة صحفية لا تقل إثارة عن هذا العالم ، لنصف عن قرب ما يحدث فى إحدى جلسات تحضير الأرواح ، و الإستعانة بها فى شفاء مريض بالشلل ، إستدعاه رئيس جمعية تحضير الأرواح ، المسجلة فى وزارة الشئون الإجتماعية
.
و هذا ما دار فى الجلسة المثيرة ، التى حدثت وقائعها داخل شقة فاخرة بحى المقطم.
كانت تجربة صحفية رائعة ، بقدر الغموض الذى غلفها منذ البداية ، كان الإتفاق على أن نحضر جلسة من جلسات تحضير الأرواح هذه ، و كنا بصحبة أحد المرضى ، الذى أقنعه صديق له بأن علاجه سيكون فى هذه الجلسة ، التى يحضرون فيها أرواح أطباء ، لإجراء الكشف عليه و تشخيص مرضه و علاجه
.
تحدد لهذه الجلسة الساعة التاسعة مساء ، فى شقة بإحدى العمارات الشاهقة فى حى المقطم ، و عندما دخلنا إلى الشقة فوجئنا بأن هذه الشقة ليست شقة سكنية ، بل هى أشبه بمقر لهؤلاء الناس ، يستخدمونها فقط فى جلسات تحضير الأرواح ، فالأثاث الموجود بالشقة كله أثاث مكتبى ، و الأضواء المنبعثة من الجدران كلها أضواء خافتة ملونة بألوان الطيف السبعة ، و موضوعة بشكل يجعل الضوء ينبعث منها بدرجات مختلفة ، و زواياها مختلفة ، لكى تمنح المريض و الحاضرين جزءا أكبر من التركيز ، و إفراغ الطاقة الموجودة فى المكان ـ هكذا قالوا لنا
.
رحب بنا رئيس الجمعية ترحيبا حارا ، و عرفنا على الطاقم المصاحب له ، و هم ثلاثة ، جميعم أساتذة جامعة ، و بعد أن تم التعارف ، سألنا : هل تصلوا ، فأجبنا جميعا بالإيجاب ، فأومأ برأسه علامة رضا ، و موافقة ، و إستعان بالله لكى يبدأ وقائع الجلسة المثيرة!
أطفأت الأنوار ، و ألقى علينا رئيس الجمعية تعليمات يجب علينا إتباعها ، و هى أن نهدأ نفسيا ، و لا نخاف مما يحدث ، و أن نركز جميعنا على الكعبة الشريفة ، و نستحضرها فى أذهاننا
.
و تنحنح طويلا ، ثم بدأ رئيس الجمعية بقراءة القرآن الكريم ، و أمر الجميع بأن يرددوا خلفه ، فى همس ، الآيات التى يقرأها .. بدأ بقراءة الفاتحة ، ثو سورة النور ، ثم المعوذتين ، فآية الكرسى ، ثم راح يتمتم بكلمات لم نسمعها ، و لم نفهمها ، و إستمر ذلك لأكثر من عشر دقائق كاملة ، و الصمت المطبق يغلف المكان ، إلا من أنفاس المريض اللاهثة ، و هو الصوت المسموع الوحيد فى الحجرة المظلمة، و بعد مرور الدقائق العشر ، قال أحد المساعدين "أستاذ الجامعة
".
الضيوف وصلوا ، و رفعنا رأسنا سريعا ، لنرى هؤلاء الضيوف ، لكننا لم نر إلا ضوء خافت جاء من صالة الشقة ، و إلتصق بأحد أركان الغرفة التى نجلس فيها ، ثم رفع رئيس الجمعية رأسه ، و قال: أهلا بهم و سهلا ، طالما جاءوا بالخير
.
مرت فترة صمت ، كان يتمتم رئيس الجمعية و مساعده خلالها ، ثم رفع أحدهم صوته بهمهمة غريبة ، بثت الرعب داخلنا ، أعقبها بقوله : الأطباء وصلوا يا دكتور .. و موجها حديثه لرئيس الجمعية ، الذى رد عليه و هو مغمض العينين و كأنه هائم فى عالم آخر : كم عددهم ، فأجاب مساعده أستاذ الجامعة : أربعة ، معهم قائدهم ، فرد مساعد آخر : قليلون هذا اليوم ، و عقب رئيس الجمعية : إنهم معاهم الشفاء بإذن الله، ثم أستدار و جلس بجوار الرجل المريض ، و قال له ، يا حسين ، إقرأ كما أقرأ من القرآن ، و ظل يتلو عليه آيات من القرآن الكريم ، و حسين المريض يتلو خلفه ، ثم توقف و قال له : بماذا تشعر الآن ، فأجاب حسين يشعر بأن هواء بارد يدخل من قدمه اليمنى إلى جانبه الأيمن ، فرد رئيس الجمعية ، إنه العلاج و الشفاء بإذن الله
.
و قد كان المريض حقا يعانى شللا نصفيا فى جانبه الأيمن ، حاربه عند الأطباء ، و لم يجدوا له علاجا ، حتى الأطباء النفسيون فشلوا فى علاجه ، و من ثم لجأ إلى هذا النوع من العلاج ، من باب أن الغريق يتعلق بقشة
.
المهم.. تكرر هذا الموقف " موقف الهواء البارد" عدة مرات ، أثناء الجلسة ، و بدأ الحاضرون يسمون الأرواح التى حضرت بأسمائهم ، و فى هذا التوقيت أغشى على المريض فجأة ، و كاد يسقط على الأرض ، لولا أننا أسرعنا و أسندناه ، و أضاء رئيس الجمعية الأنوار ، و قال : كفاية كده النهاردة ، فقد كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة مساء
.
و عقب إنتهاء الجلسة ، دخلنا فى مناقشة حول الإتصال الروحى ، و تحضير الأرواح ، فأكد رئيس الجمعية أن علم تحضير الأرواح و الإتصال أصبح الآن علما يدرس فى كل جامعات أوروبا و أمريكا ، و صدرت فيه آلاف الكتب و الدوريات ، و من خلال حديث رئيس الجمعية لنا ، إكتشفنا أنهم يؤمنون بعدة مبادىء أولها : أن كل المعلومات المؤكده تصل عن طريق أرواح من ماتوا ، و أنهم يؤمنون بالله ، و إن كان لدى كل منهم تفسير مختلف للدين ، حتى إن الروحانيين البريطانيين أقاموا لأنفسهم كنيسة مستقلة.
يؤمن الروحانيون أيضا بأنه لا قيامة للجسد ، و إنما القيامة للأرواح ، سواء دخلت الجنة أو النار ، و أن الكافر يمكنه أن يتوب بعد أن يموت .
و من المبادىء التى يؤمنون بها أيضا أن الروح تسكن عدة أجساد فى مراحل زمنية متعاقبة ، كى تكفر عن سيئاتها ، و أن الأرواح الطيبة تصل إلى أولى مراتب الجنة بعد الموت ، لكنها يمكن أن تهبط إلى الأرض فى مهام الخير ، كإلهام الشعراء ، و العباقرة ، كما يؤمنون بأن عذاب البشر السيىء هو عقابهم بحبسهم فى الدنيا دون جسد مادى ، فمثلا روح البخيل تسكن بجوار ماله ، فتتحسر عليه.
و لا يمكن أن تتم عملية تحضير الأرواح إلا من خلال وسيط ، و هو الدور نفسه الذى قام به أستاذ الجامعة ، و للوسيط خصائص محددة ، يهبها الله بعض البشر ، موهبة أن يكون وسيطا ، كأن يتمتع بالجلاء السمعى ، فيسمع من الأرواح ، و ينقل للآخرين ، أو أن يكون له جلاء بصرى ، بأن يرى الأرواح رؤية واضحة جلية ، و ربما تكون هذه الأرواح غربية ، لا تتحدث اللغة العربية ، لكن يكون فى مقدور هذا الوسيط التحدث إليهم و فهمهم و إعادة شرح ما يقولون باللغة العربية للموجودين.
إنتهت الجلسة بعد أن سمعنا و رأينا أشياء غريبة ، لم نرها من قبل ، لكن بحق كانت التجربة مثيرة و أكثر ما زاد إثارتها هو ذلك الغموض ، الذى تعمد رئيس الجمعية أن يضفيه على الجلسة، حتى لا نكشف كل الأسرار و كل ما يحدث بداخلها ، لكن على الرغم من كل هذا ، فإن إعتقادنا لم يتغير ، و قررنا خوض التجربة مرة أخرى ، لكن فى عقول علماء الإسلام ، فى محاولة لتفسير هذه الظاهرة الغريبة ، و كل ما يحدث ، كذلك رأى علماء النفس ، خصوصا أن الميتافيزيقا أصبحت علما يدرس فى كثير من الجامعات.
الدكتور ظريف شوقى ، أستاذ علم النفس ، يؤكد أنه شاهد كثيرا من هذه الجلسات ، لكنه لم يقتنع بكل ما يحدث فيها ، و إعتبرها دجلا و خرافة، و يقول : إنه لا يوجد شىء إسمه علم الأرواح ، و أنها مجموعة من الخبرات الشخصية غير المقننة ، فالعلم يجب أن يتقرر فى المعامل ، ثم إن العبقرية التى يدعون أنها إيحاء من أرواح أخرى ، لها تفسير علمى واضح ، و تعنى العبقرية علميا أن هناك شخصا درجة ذكائه فوق 140 درجة ، أما الإلهام فهو محصلة علم و خبرة و ثقافة و ذكاء و موهبة.
و ما يحدث فى هذه الجلسات ليس إلا تنويم مغناطيسى ، هدفه إيقاف أى تنبيه للمخ ، و إنخفاض الوعى تدريجيا ، ثم تمكينه من أن يوحى للشخص النائم بما يريد.
و يضيف : إن مسألة العلاج بالأدعية و القرآن و الإنجيل أيضا ليست سوى حديث عن أمور غير علمية.
أما الدكتور عبد المعطى بيومى ، عميد كلية أصول الدين الأسبق ، و رئيس اللجنة لتشريعية بمجلس الشعب ، فيقول : إن الإيمان بالغيب اختصاص الله سبحانه و تعالى ، فهو سبحانه يعلم مفاتيح الغيب ، بدليل قوله تعالى:"و عنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو" ، و من حاول معرفة هذه المفاتيح ليشارك الله فيها كفر ، و هنا نتناول ثلاث نقاط:
الأولى: سبب إنتشار ما يسمى الإتصال بالأرواح هو بعد الناس عن تعاليم الدين الصحيحة ، فكلما بعدوا عن التعاليم الإسلامية ، تسلطت عليهم الخرافات و الأوهام.
الثانية: أن الجن لا يعلمون الغيب ، و الواقع أن الإتصال لا يتم بالروح ، بل بالجن ، و قد ذكر القرآن الكريم أنهم لا يعلمون الغيب ، فكيف سيعرفها من يعتمد على أخبارهم ؟ و قد قال تعالى فى عدم علمهم بموت سليمان " فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض ، تأكل منسأته ، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا فى العذاب المهين".
الثالثة: الروح لا عودة لها إلى الدنيا ، فالروح حية لا تموت ، و أنما الموت للجسد ، أما الروح فلا يستطيع أحد أن يعيدها إلى مجلسه كما يدعى الدجالون ، إنما هى عند ربها تنعم أو تعذب ، فالذى يدعى العلاج بالأرواح يحضر جنا و ليس أرواح ، و الجن له القدرة على التشكل فى أى صورة ، و من يفعل ذلك تجدهم أكثر الناس تعاسة ، و هم فى حاجة إلى علاج.
أما الدكتور حسنى الجوهرى ، رئيس قسم الشريعة بجامعة الأزهر ، فيقول : إن الذين يدعون الإتصال لا يعرفون الروح حتى إذا ما حضرت قالوا هذه الروح التى نعرفها ، لذلك فإننا نوضح أمورا ثلاثة ، الأول : أن الإتصال يكون بالقرين ، و الثانى: أن الغيب لله وحده ، أما الأمر الثالث و الأهم : أن الثقة بالله فى أنه هو الشافى، هى التى يجب أن يتحلى بها الجميع.
و يضيف: أن الإشتغال بتحضير الأرواح و إستخدامها للعلاج من الأعمال المرفوضة إسلاميا ، و يحرم على من يدعيها أن ينشر ذلك أو يستغل هذه الأعمال فى السيطرة على أفكار السذج الذين لا علم لهم بأحكام الدين ، و أصول الشريعة الإسلامية ، و التحضير الذى يقوم به المدعون لا يكون لأرواح الموتى ، و أنما هو للجن و القرين.
و من الجن من له القدرة على تقليد صاحبه فى صوته ، و قد يتشكل أيضا بصورته نفسها ، و للعلم ، فإن القرين هو الشيطان ، الذى يسيطر على النفس البشرية ، و يريد أن يبعدها عن دين الله ، كما يقول الله تعالى : "ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيد له شيطانا فهو له قرين و إنهم ليصدونهم عن السبيل و يحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاء قال يا ليت بينى و بينك بعد المشرقين فبئس القرين".
و يختتم الدكتور الجوهرى حديثه قائلا : إنه يجب أن يتحصن المسلمون بقوة الإيمان ، و الثقة بالله و الإقبال على طاعته ، و البعد عن معصيته ، ما إستطعنا إلى ذلك سبيلا ، و أن نثق دائما فى أن الله هو النافع و هو الضار ، و لا ضرر إلا ما شاء الله ، "و لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير و ما مسنى السوء إن أنا إلا نذير و بشير لقوم يؤمنون" و هو ما جاء فى سورة الأعراف الآية 188.