غازي القصيبي ورومانسية بلا حدود
الحلقة الأولى
الرومانسية والليبرالية في الأدب الغربي :
شهد القرن الثامن عشر في أوروبا مولد حدثين عظيمين على الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية من جانب آخر . كما كان الحدث الأول ممهدا للحدث الثاني ومبشرا بظهوره . أما الحدث الأول فهو الثورة الفرنسية عام 1789 م . التي كانت بمثابة إشارة البدء للتحرر والانعتاق من قيود الطبقية والإقطاع ، وتحكم فئة بعينها في قطاع عريض من الشعب . وبعد أن استقرت الثورة وتمخض عنها المذهب اللبرالي الذي يدعو إلى الحرية والخلاص من هيمنة الطبقية ، وقويت أرضية الأساس الاجتماعي القائم على دعائم إعلاء الفردية الذاتية ، وتقديم الفرد على الجماعة . انبثق عن هذا المفهوم التحرري مفهوم فكري جمالي تبلور فيما بعد ليصبح مذهبا أدبيا وفنيا عريضا عرف بالرومانسية مذهبا يحمل في أعماقه نزعة التحرر والانطلاق وكسر القيود التي كبلت الأشكال والمضامين على حد سواء . واتجهت ناحية جديدة تخلق أعمالا فنية مطابقة لاحتياجات العصر ومطالب إنسان ما بعد الثورة الفرنسية . ( 1 )
ومن هنا ندرك الصلة الحميمة بين الرومانتيكية والليبرالية ، فهما مذهبان متداخلان ، كلاهما يستهدف التحرر " الرومانتيكية تستهدف في الأدب والفن ، والليبرالية في السياسة وشئون الحكم " . ( 2 )
فالرومانتيكية ثورة ـ بكل ما تحمل هذه الكلمة من دلالة ـ على الأدب والأدباء ، فحطمت القوالب الشعرية التقليدية ، وكسرت حدودها ونمطيتها ، وتمردت على القوانين الفنية ، وصرخت أعلى صوتها منادية بالحرية الأدبية إبداعا وابتكارا واعتبرت الرومانسية ذات الشاعر المحور الأساس الذي تدور حوله التجربة الفنية ، وجعلت من الإنسان سيد نفسه ، وذاتيا إلى ابعد الحدود !! ولذا يأتي الشاعر الرومانسي غنائيا صافيا ملتهب العاطفة غزيرها متدفق الحماسة ، مرهف مجذوبا إلى الطبيعة يناجيها مندمجا فيها ينطقها ، يحل فيها وتحل فيه , صدفيا متأرجحا بين الحلم والواقع ( 3 ) .
وقد تشبعت مفاهيم الرومانسية . واختلطت معانيها حتى أصبح ، من العسير أن يقف الباحث على مفهوم محدد ، وذلك أمر حتمي ، إذ كيف يمكن أن نحصر مذهبا في مفهوم مؤطر . وقد جاء انتفاضة ضد الأطر والقواعد . جاء مخلصا للإبداع من القيود والحتمية .
كما أن هذا الخلط وذلك التشعب يرجع بالضرورة إلى اتساع القاعدة العريضة من الفنانين والأدباء الذين يمثلون الرومانسية كمذهب أدبي قلق متحرر منطلق من صدفية التقوقع والتحجر .
غير أنهم لم يوفقوا في رسم أطر محددة وبلورة ملامح أدبية متكاملة واضحة المعالم ، لذلك كانت الرومانسية أبعد ما تكون عن مدرسة أدبية راعي تلاميذها نظاما أو التزموا بقيم ايجابية ثابتة . ( 4 ) لذلك يقول أحد الباحثين " أن الرومانتيكية اتجاه عريض ربما يمثل في موقفه الاجتماعي الرافض أكثر مما تمثل خصائص إيجابية مشتركة . ( 5 )
ومن هنا ندرك مدى الحيرة التي وقع فيها النقاد والأدباء في تأطير مفهوم الرومانسية ، فتباينت مفاهيمها واختلفت باختلاف ميول وأهواء ونوازع أدبائها ، ومع هذا فثمة محاولات كانت تتجه لتعريف مضمون " الرومانسية كمنهج أو مذهب أكثر من اتجاهها لتعريف الأدب الرومانسي ذاته ، لذلك نلمح أحيانا في بعض المباحث التي تعني بدراسة الأدب الرومانسي شيئا من التعريفات التي تنتمي إلى مفهوم أدبي بحت فقد عرفها " ستاندال " بأنها الفن الذي بموجبه نقدم للشعوب في حالتها الراهنة من العادات والمعتقدات أعمالا أدبية جديدة بأن تعطيها أكبر قدر ممكن من المسرة " . ( 6 ) وعرفها البعض " أنها حالة نفسية أكثر منها مذهبا أدبيا وفنيا " . ( 7 )
ومجمل القول إن الأدب الرومانسي هو أدب العاطفة والخيال والتحرر الوجداني والفرار من الواقع والتخلص من ربقة الأصول الفنية التقليدية للأدب .. كما انه يمثل روح الثورة والتمرد والانطلاق والحرية " . ( 8 ) وهو أدب الخيال المشحوذ ، والملتهب في خدمة الغرض العاطفي بدلا من أن يكون في خدمة الغرض العقلي الرومانسي .
وقد أوجز الباحثون والنقاد القول في الركائز الفلسفية والفنية التي يتمحور حولها الاتجاه الرومانسي وهي :
أولا ـ من البديهي أن الاتجاه الكلاسيكي يعتمد في فلسفته الجمالية على العقل . في حين أن الرومانسية تعتمد على دعامتين أساسيتين القلب والعاطفة ، فالرومانسيون يجحدون هيمنة العقل على الإبداعي الغني ويستبدلون به العاطفة والشعور ، وهم يسلمون قيادهم للقلب ، لأنه منبع الإلهام والهادي الذي لا يخطئ وهو موطن الشعور ، ومكان الضمير عندهم " وقوة من قوى النفس ، قائمة بذاتها ، وغريزة خلقية تميز الخير من الشر عن طريق الإحساس والذوق " .( 9 )
ثانيا ـ تطالب الرومانسية بالتحرر من القواعد والتقليد ، وتؤكد أهمية التلقائية والغنائية ، وذلك أن الرومانسية تقدمية تنظر إلى المستقبل ، ولا تحترم قدسية الأدب القديم لأنها تحترم ذاتية الفرد . " فالحقيقة التي ينشدها الرومانسي ذات طابع ذاتي أسيرة لخيال الكاتب وعاطفته المشبوبة ، وتتبدى في ثوب جديد ثائر . (10)
ثالثا ـ يستمد الشعراء الرومانسيون صورهم من نهر الأحلام الحالم ، فهم يميلون إلى أحلام اليقظة والغموض ، وتداخل وظائف الفنون المختلفة وحدودها ، وخيالهم المجنح يعوضهم عما فقدوه في دنيا الواقع ، وهو خيال يجسد الأحلام فتصبح كأنها حقيقة ، ويرسم صورة مجسدة لمحبوبة وهمية بعشقها الشاعر في الخيال وهو خيال يقرب من الجنون والرومانسيون سواء أكانوا متفائلين أو متشائمين يجمع بينهم الهروب من الواقع " ويرجع ذلك إلى الخيال الرومانتيكي الفريد من نوعه الذي يجعلهم يشعرون بفراغ في وجودهم لا سبيل إلى ملئه . (11) وهم يتمنون الهرب من الزمان والمكان إلى أحضان الأبدية والعدم ، وهذا التمني صورة من صور الهرب من الحاضر .
رابعا ـ والأدب الرومانسي أدب الثورية والتحررية ، أدب حطم ما هد كاهل الكلاسيكية من قيود ونمطية وتقليد أدت إلى جفاف أدبهم وموته .
لذلك ندرك الصلة الوثيقة بين الرومانسية كمذهب جمالي فني والليبرالية كمذهب تحرري إذ أن كليهما يستهدف الانعتاق والتحرر .
خامسا ـ مالت الرومانسية إلى استعمال اللغة الرقيقة السهلة والاقتراب من تعبيرية الريفيين ، " كما جاءت بحشد من الصور والاستعارات والتشبيهات الجامحة الخيال . وأحيانا نراها تجنح إلى الغريب من اللفظ لتجاري رغبتها العامة في اكتشاف أساليب تعبيرية جديدة تكون أكثر تأثيرا وإدهاشا وأكثر مفاجأة
للقارئ . ( 13 )
سادسا ـ كانت الغابة من الأدب الكلاسيكي نشدان الحقيقة ومن ثم كان أدبهم أخلاقي في النزعة والهدف ، يسعى دائما إلى تحقيق الغايات الأخلاقية في حين أن الغاية من الأدب الرومانسي " نشدان الجمال والاستجابة للعواطف ، وهذه العواطف ليست شرا ، بل هي الخير كله ، لأنها مجلى الجمال النابع من الضمير ثائرين على شرور المجتمع من حولهم ، مطلقين العنان لعواطفهم وأحلامهم " ( 14 ) .
سابعا ـ ثار الرومانسيون على مبدأ التقليد والمحاكاة التي نادت بها الكلاسيكية ، ونادوا بأن الأدب خلق وإبداع ، فتمردوا على فلسفة المحاكاة وتقليد الطبيعة التي نادي بها أرسطو وتابعة فيها الكلاسيكيون . وقالوا إن الأدب يجب أن يعتمد على الخلق . وأداة الخلق ليست العقل ، ولا الملاحظة المباشرة " بل الخيال المبتكر ، أو المؤلف بين العناصر المشتتة في الواقع الراهن ، أو في ذكريات الماضي ، بل وفي إرهاصات المستقبل وأماله " ( 15 ) .
ثامنا ـ كما نادت الرومانسية بمحلية الأدب ، وحاربوا به الاتجاه الإنساني العام الذي دعت إليه الكلاسيكية .
فالرومانسية لا تريد أن نتحدث عن الإنسان في ذاتها ، بل عن أفراد البشرية " لذلك تريد أن تضفي على كل إنسان لونه المحلى ، فالأسباني غير الفرنسي ، وحب موبسييه غير حب لامرتين ، فلكل منهم لونه النفسي وخصائصه المميزة " ( 16 ) .
الرومانسية في الأدب العربي
ومثلما شهد القرن الثامن عشر في أوروبا حدثين عظيمين ـ تحدثنا عنها أنفا ـ شهد الأدب العربي في مطلع القرن العشرين متغيرات كثيرة دفعة بعضها إلى البحث عن مذهب أدبي جديد يخلصه من تقوقع الكلاسيكية وتحجرها ، فسلك الفكر العربي أدبيا وثقافيا مسلك الأدب الرومانسي الغربي .
وقد غزت الرومانسية الشعر العربي على أيدي شعراء المهاجر الأمريكية كجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ، وإيليا أبو ماضي ، وشفيق المعلوف وغيرهم ، وشعراء مدرسة الديوان العقاد والمازني وشكري ، ويعتبر الشاعر خليل مطران أبا الرومانسية العربية ( 17 ) ، ولكن أحد الباحثين يقول ، وربما كان جبران خليل جبران أول مؤسس للمذهب الرومانسي العربي ، فهو أول رومانسي عربي أدبا وحياة ، وقد كان قبله أصوات خافتة متقطعة في هذا المجال . ولكنه هو الذي نفخ من روحه في هذا المذهب حياة جديدة ، وأعطى له معالم وخصائص مميزة واتخذه فلسفة في حياته . ( 18 )
وقد شعر جبران كما شعر من قبله خليل مطران بغربته في هذه الحياة التي كانت دافعا قويا ـ إلى جانب الدوافع الأخرى ـ لتولد عنده مذهبا أو فلسفة جديدة عرفت فيما بعد بالرومانسية ، يقول جبران " أنا غريب في هذا العالم أنا غريب وفي الغربة وحده قاسية ، ووحدة موجعة ، غير أنها تجعلني أفكر أبدا بوطن سحري لا أعرفه ، وتملأ أحلامي بأشباح ارض قصية ما رأتها عيني " ( 19 ) .
والذي نراه أن كلا الشاعرين يعدان من أوائل الشعراء العرب الذين تأثروا بالرومانتيكية الغربية وأثروا فيمن جاء بعدهم من الشعراء فمطران من أبرز الشعراء المهاجرين إلى مصر تأثرا بالاتجاه الإبداعي الغربي ، وينسب إليه كل تجديد في الشعر المصري ، ويعد العقاد ، والمازني ، وأبو شادي ، وناجى ، ومحمود طه وغيرهم من تلاميذه ومن الذين تأثروا به . ومن مظاهر تأثر خليل مطران بالاتجاه الإبداعي دعوته في مقدمة ديوانه إلى الوحدة العضوية في القصيدة الغنائية ، وإلى صدق الشاعر في تجاربه ، وتحقق ذلك في تجارب مطران نفسه حين عبر عن آلامه تعبيرا أصيلا جديدا في نوعه في الشعر العربي إذ رأى الطبيعة مرآة لنفسه الآسية الحزينة ، وقابل بين مناظرها وأحاسيسه في قصيدته _ المساء ) ، وفي قصائده ذات الطابع الإنساني والاجتماعي ، وهذه كلها نزعات وخواطر رومانتيكية (20) . وكذلك الحال فيما يتعلق بجبران فهو من مؤسسي المدرسة الإبداعية في الشعر العربي الحديث ، وصوره لا تكاد تختلف في شيء عن شعراء الاتجاه الإبداعي في فرنسا وإنجلترا .
ثم نمت الرومانتيكية العربية وترعرت على أيدي شعراء مدرسة أبولو وروادها أحمد زكى أبو شادي و أبو القاسم الشابي و إبراهيم ناجى و الصيرفي والسحرتي وغيرهم . ثم تبناها شعراء لبنان وفلسطين كبشارة الخوري و إلياس أبو شبكة وإبراهيم طوقان و فدى طوقان في فلسطين .
بيد أن الرومانتيكية في الشعر العربي ما بين الحربين العالميتين لم تكن سوى تقليد ممسوخ للرومانتيكية الغربية ، وغناء بسيط فاتر بعيد عن المعاناة الحقيقية . أما في مرحلة ما بعد الحرب الثانية ، فقد باتت تمثل معاناة الإنسان العربي الذي يتمزق وينزف داخليا من خلال الحضارة الجديدة التي يعيش فيها ويمارسها باتت ثورة على الواقع الفاسد والحياة المؤلمة المربدة التي طالما عانى من وقعها الإنسان العربي ، وأخذت تعكس ما في داخل الشاعر من أمان وأحلام ، وقلق وضجر وأحزان وغربة واستلاب .
فالرومانتيكية في الأدب العربي بعد الحربين دعوة إلى التحرر من القيود الفنية ، فالقصيدة العربية تحررت من عمود الشعر العربي القديم ، ومن القافية الواحدة ، بل تحررت من الأوزان القديمة وشكليتها ، وظهرت أنماط مختلفة من الشعر لا تعتمد على وزن ولا قافية مطلقا . بينما نجد الشعراء الذين تأثروا بالتيار الرومانسي في فترة ما بين الحربين كخليل مطران ، وجبران وغيرهما من شعراء تلك الفترة لم يخرجوا على التقاليد الفنية الموروثة ، ولم يغيروا في شكل القصيدة ، ولم يتخلوا عن أوزان الشعر وقوافيه . وقد مثل الرومانتيكية العربية في مرحلتها الثانية شعراء العراق المعاصرون كالسياب ، نازك وبلند الحيدري ، ويوسف عز الدين وعبد الوهاب البياتى وغيرهم . وأدونيس ، وخليل حاوي وأنسى الحاج والماغوط ويوسف الخال في سوريا ولبنان . وتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم ـ إلى حد ما ـ في فلسطين . وصلاح عبد الصبور و أحمد عبد المعطى حجازي وغيرهم في مصر . ثم اتسعت دائرتها وتشعبت لتشمل جمعا غفيرا من جيل الشعراء الشباب في الوطن العربي .
ورغم أن الرومانتيكية العربية كانت في بادئ نشأتها انعكاسا للرومانتيكية الغربية ، فإنها لم تصل في جميع مراحلها إلى ما وصلت إليه الرومانسية الغربية من إلحاد وأعمل سيئة غير أخلاقية أضفت عليها طابع التشاؤم ، وألقت بأدبائها إلى بؤرة الجريمة ، وأوصلت بعضهم إلى هاوية الجنون ، إضافة إلى البحث عن كل غريب مجهول " جانحين بأدبهم إلى الغموض والرهبة ، وصوروا الأحلام المفزعة وحالات الرعب ووخز الضمير " . (21)
وبقيت الرومانتيكية العربية محصورة في حدود مقاومة الأدب التقليدي ، والدعوة إلى الرجوع للذات ، ووصف تجارب الأديب الفردية والإنسانية في حدود ما يشعر به أو يصل إلى تفكيره .
وقد شارك الشعراء الخليجيون عامة والسعوديون على وجه الخصوص ذوو النزعة الرومانتيكية إخوانهم من الشعراء العرب الرومانتيكيين في كل اتجاهاتهم الفنية بدءا بمضمون القصيدة وموضوعها وانتهاء بالتحرر من الأنماط الشكلية ، فوجدت بذرة الرومانتيكية في أرض الخليج تربة صالحة لنموها وترعرعها ، حيث اتسعت دائرة المثقفين ، وبرزت ملامح الطبقات الاجتماعية ، وكانت النقلة الحضارية والثقافية مفاجئة لمن أطلع عليها .
وحول هذه النقلة الحضارية والثقافية يحدثنا أحد الباحثين قائلا : " تطورت النقلة الثقافية خاصة في شمال الخليج ، ثم اتسعت لتشمل أقطار أخرى كالسعودية ، وقد تجلى ذلك في انتشار الجمعيات الأدبية والأندية الثقافية والمعاهد والجامعات وأتيح للكثيرين أن يتلقوا علومهم بالخارج ، واتصلوا برواد النهضة الثقافية في الأقطار العربية الأخرى ، ومن ثم كان الاتصال بالتيارات الثقافية في الوطن العربي " (22) . هذا إلى جانب حياة القلق النفسي التي عاشها بعض الشعراء ، وشعورهم بتخلخل البنية الاجتماعية وانكماش قيمها ، ومعاناتهم النفسية وانطوائهم الذاتي ، وتأثرهم بالمدارس الأدبية العربية ، وبشعراء سوريا ولبنان وفلسطين والعراق الذين سبقوهم في التأثر بالاتجاه الرومانتيكي الغربي ، وإعجاب بأدبائه ، وما تركته الصوفية السلبية المتمكنة في الشرق من رواسب في نفوس هؤلاء الشعراء . كل ذلك كان بمثابة المؤشرات التي ساعدت على بروز ملامح التيار الرومانتيكي في منطقة الخليج بأسرها .
ـــــــــــــــ
1 ـ د . سيد النساج : في الرومانسية والواقعية ص 9 .
2 ـ د . حلمي مرزوق : الرومانتيكية والواقعية في الأدب ص 17 .
3 ـ د . عبد الحميد جيدة : الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي ص 176 .
4 ـ عادل فريحات : إضاءات في النقد ص 153 .
5 ـ حسام الدين الخطيب : الأدب الأوروبي ص 154 .
6 ـ فليب فان تيجم : المذاهب الأدبية الكبرى في فرنسا ص 199 ترجمة فريد انطونيوس .
7 ـ د . محمد مندور : الأدب ومذاهبه ص 40 .
8 ـ د . عز الدين إسماعيل : الأدب وفنونه ص 52 .
9 ـ ( أميل برييه ) تاريخ الفلسفة ج 2 ـ ص 486 نقلا عن د . سعد دعبيس : حوار مع قضايا الشعر المعاصر ص 65 .
10 ـ د . محمد غنيمي هلال الرومانتيكية ص 19 .
11 ـ د . محمد غنيمي هلال : نفس المرجع ص 77 .
12 ـ د . محمد غنيمي هلال : نفس المرجع ص 84 .
13 ـ عيسى بلاطه : الرمانطيقية ومعالمها في الشعر العربي الحديث
ص 78 .
14 ـ د . محمد غنيمي هلال : الأدب المقارن ص 45 .
16 ـ د . محمد مندور : محاضرات في الأدب ومذاهبه ص 45 .
17 ـ د . مسعد زياد : نشأة الشعر العربي السعودي المعاصر واتجاهاته الفنية ص 260 .
18 ـ عادل فريحات : مرجع سابق ص 176 .
19 ـ مجموعة جبران الكاملة العواصف ج 3 ص 163 .
20 ـ د . محمد غنيمي هلال : الأدب المقارن ص 410 ـ 411 .
21 ـ محمد مفيد الشوباشي : الأدب ومذاهبه ص 114 .
22 ـ ماهر حسن فهمي : تطور الشعر العربي الحديث في الخليج ص 59 .
الحلقة الثانية
ظواهر الرومانسية في شعره :
أولا : القلق والتمزق النفسي :
يعتبر التمزق النفسي والشعور بعدم الرضا بالواقع الذي يعيشه الشاعر من الظواهر الرومانسية البارزة ، لا في الشعر الغربي فحسب ، بل وفي الشعر العربي أيضا . فكثير من الشعراء الرومانسيين العرب تعتريهم حالات من الحزن والكآبة نتيجة لهذا القلق الذي تغطى سحبة الداكنة سماء ذواتهم . وقد غلب هذا القلق والتبرم والشعور بالحزن والكآبة على نتاج الشعراء في المملكة العربية السعودية بحيث أصبح ظاهرة نفسية تنعكس على خطابهم الشعري ، ونرى ملامحها في جل إبداعهم الفني . ويعلل أحد الباحثين أسباب هذا القلق والتمزق النفسي " بالظروف القاسية ، والحب المعذب اليتم ، والفقر ، والحرمان " (1) .
يقول القصيبي من قصيدة بعنوان " حرمان " (2) ( من الخفيف ) :
ضحكت ها هنا الحياة ..فأكواب ***** وأسرب فاتنات حسان
أين كأسي ؟ لا تسألوا ..أنا لا ***** أشرب إلا مرارة الحرمان
ويعلل باحث آخر بأن ما يسيطر على أصحاب النزعة الرومانسية من قلق نفسي ، وما يصاحبه من عوارض أخرى مرده إلى " عدم توازن القوى النفسية عند هؤلاء الشعراء الذين طغى الشعور عليهم بذات أنفسهم طغيانا دفعهم إلى النقمة على كل ما هو موجود ، والتطلع إلى ما لا يستطيعون تحديده ، خاصة في عالم السياسة والخلق والأدب " (3) .
كما أن القلق النفسي وما يصاحبه من تشاؤم طبيعية في سن الشباب ، سن التبرم والضيق والانطوائية ، وعدم المواءمة بين الواقع وأحلام الأرواح الفتنة ، وآمالها الواسعة ) وقد انعكست تلك الأعراض على أحاسيس ومشاعر القصيبي فقال ( من الكامل ) :
ورجعت للدنيا . . أجر كآبتي **** خلفي .. أقوم مع الجموع وأقعد
أخفيت عن كل العيون مواجعي **** فأنا الشقي على السعادة أحسد
وأنا العليل أحس أدواء الورى ******* وأنا المرقط بالجراح أضمد
وأنا المقيد والعناة تحف بي **** وأنا البخيل يزوره المسترفد (4)
ولا يقف الأمر بالشاعر القلق عند حد الكآبة ولتمزق النفسي والتبرم من كل ما يحيط به ، بل نجد احزن أيضا من الظواهر المصاحبة لهذا القلق ، ذلك الحزن الذي يسيطر على الشاعر إلى حد اليأس ، رغم إخفاء مظاهره عن الآخرين وإدعائه الفرحة ، ورسم ابتسامة باهتة على شفتيه . وإلى جانب الحزن لا يستطيع التخلص من الحيرة والتمزق الداخلي اللذين يصاحبانه في رحلة الحياة لمؤلمة . يقول ( من مجزوء الرجز ) :
كقطرة من مطر ـــــ تسلقي ، تسوري
وطالعى تمزقي ــــــ وشاهدي تحيري
تأملي العذاب كالضبا ـــــ ب في تفكري
وفرقى القناع عن ـــ زيفي .. وعن تنكري
أضحك للناس وفي ـــ روحي دموع الأعصرِ
وأدعي الفرحة والحز ــــ ن سمير سمري
تصوري هذا الخداع ـــــ كله تصوري (5)
وغالبا ما يترجم القلق والحزن عند القصيبي إلى خوف وأوهام وهموم تلاحقه إن اتجه أو استقر ، ويهده الألم ، ويقيد خطوه اليأس ، ويحتويه طريق الضياع . يقول من قصيدة بعنوان " قافلة الضائعين " (6) ( من المتقارب ) :
حواني طريق الضياع الطويل
وجاء المساء
وأبصرت أسباحه الواجمة
تحملق في
وظلت تردد في مسمعي :
إلى أين تمضي وهذا الطريق
بدون رجوع ؟
وضج بأذني عويل الرياح
وروعني من وراء الكهوف عواء الذئاب
وخلف انحناء الدروب رأيت عيون الوحوش
وكدت أعود
ولكن سدا رهيبا أطل
يسد على طريق الرجوع .
والحيرة والملل وتمزق الفكر من الرواسب النفسية التي يخلفها القلق في أعماق الشاعر ، حيث غدا يجر خلفه أذيال اليأس ، وخيبة الأمل ، ينفث زفراته الحري من آن لآن . فاسمعه يقول ( من البسيط ) :
هل تستطيعين إنقاذي من الملل ـــ هل ستطيعين إرجاعي إلى مثلي
أنا أمامك .. أفكار ممزقة ــــــ وحيرة .. ( تماس ) ضائع السبل
لم ترشف من ينابيع الرضا لقافلتي ــــ ولم تنور براكين السنى مقلي
ما زلت أبحث عن درب لقافلتي ـ ما زلت أبحث عن مغنى لمرتحلي (7)
واليأس والأوهام ، والآلام النفسية عناصر يفضي بعضها إلى بعض في قناة القلق النفسي الذي لا ينفك ملازما للشاعر يتعقبه من وقت لآخر ، ومن درب إلى درب ، حتى أصبح ديدنه الذي لا مفر منه , وغدا ملمحا من ملامح ذاته الحزينة , نلحظه في كثير من قصائده , بل شكلت ألفاظ اليأس والأوهام والأحزان , والأم والكآبة والضيق والتبرم , وما إلى ذك من ألفاظ معجمه الشعري المميز ( يقول من البسيط ) :
لجأت من قسوة لأيام .. فابتسمي ـــ وكفكي وحشة الضيف الذي لجأ
تأمليني ! أنا الجرح الذي هربت ــ منه الأساة ... أنا الجرح الذي نكئا
تأمليني أنا الإصرار منهزما ـــ واليأس محتدما .. والجمر منطفئا (8)
ويقول في قصيدة أخرى ( من الرمل ) :
أنت يا ذات العيون الساحرة
تتسلِّين بنقش الصفحات العاطرة
وأنا أسكن في يأس الجراح الغائرة
أنت لا تدرين ما الحزن..
ولا عرس المعاناة
ولا حلم النفوس الصابرة . (9)
والتشاؤم والتبرم والضيق ذرعا بالحياة مسرب من مسارب القلق النفسي يصب فيه ويتغذى منه , وقد يصاحبه حيرة وتساؤلات فلسفية حول رحلة الإنسان ووجوده ,ودوره في هذا الكون المليء بالتعمية والألغاز ووقوفه عاجزا أمام لغة هذه الحياة وسرها الدفين ,
يقول من ( الرمل )
إنني أجهل حتى مقصدي ــــــــ أتمنى أنني لم أولد
أنا في قفر حياتي ضائع ــ سار في الركب بخطو مجهد وئد
لفنى الليل ... فما أدري وقد ــــ وئد النور , بماذا أهتدي
أين أمضي ؟ يا سؤالا لم يزل ــــ ظامئا يقرع سمع الأبد
هذه الرحلة ما أغربها ـــــ أترى ندري مداها في غد (10)
وفي أحايين كثيرة يكاد القلق النفسي وما يصاحبه من أعراض نفسية أخرى أن يودي بالشاعر فيدفعه إلى تمنى الموت ، لأنه ـ ومن وجهة نظره ـ يعد الخلاص مما علق بنفسه ومما يسيطر عليها من أوهام وهموم وشك وتشاؤم وحيرة وتساؤلات لم يجد لها جوابا . يقول ( من المتقارب ) :
لماذا أعيش
لماذا أودع يوما وأرقب يوما
ويدفن عام ويولد عام
وما في الحياة جديد
تمر على الليالي
مكفنة بوجوم عميق
تراقص فيه ظلال الملل
سجون مغلفة بالأسى
تسمى حياة
وماذا أريد
مصابي .. أني أجهل ماذا أريد
.......
إلهي ! .. سألتك : " خذني إليك "
فإن حياتي ضاقت على " (11) .
ثانيا ـ الشعور بالوحدة والإحساس بالغربة والضياع :
لقد أحس الإنسان العربي بالغربة . هذه الغربة ، التي كانت نتيجة طبيعية لهذا التغير المفاجئ ، والتبدل الطارئ الذي اعترى الحياة الاجتماعية على أرض الخليج عامة ، لذلك نجد الشاعر يحلق بأشواقه على أجنحة الخيال بعيدا عن عوالم الواقع الموبوء بالآثام والشرور ، والنفور من أدواء المجتمع ، وعدم الاستقرار الروحي والمادي معا ، كل ذلك ولد في نفسه حب العزلة والانطوائية الذاتي يقول ( من الرمل ) :
مر بالكون غريبا
ومضى يدفن في المجهول أياما
قصيرهْ
مغرقا في لجة الموت أمانيه
الكسيره
فإذا ما جمع الليل الندامى
وأطل الفجر مدوها كمن
ينعى حبيبا
فاخبريهم أنه مات غريبا
ويحدثنا د / عبد القادر القط عن الغربة والضياع في جوف المدينة فيقول : " يتحول الإحساس بالغربة والضياع في المدينة عند الشاعر إلى شعور بضياع وجودي أعم وأعمق من ذلك الذي ينبع من العجز عن مواجهة الحياة والناس في المدينة ، . فهو قلق النفس الرومانتيكية المشدودة بين أحلام غائمة ، لا تدري كنهها ، ولا تدرك مداها ، وهو تمرد على الحياة النمطية الرتيبة التي تقتل في النفس الانطلاق والتجدد " (13) . وقد مثل القصيبي الغربة والضياع في المدينة أفضل تمثيل عندما صور إحساسه الرافض لهذه الغربة الروحية والمادية معا ، المتجسدة في صخب المدينة وضجيجها فقال من ( الرمل ) :
أيها الناس ! قفوا فالميت شاعر
كفنوه بالأزهار وبالورد الندي
واقبسوا آخر لمح
شع في الوجه الرضي
ادفنوه في رحاب المعبد المهجور ..
إنه قد مل ضوضاء المدينة (14) .
ويشكل الحنين مظهرا من مظاهر الغربة ، والمرأة الحبيبة واحدة من هذه المحسوسات التي ناجها الشاعر وحن إليها فهو يقول :
أنا وحدي اجر عبء حنيني ـــ أنا وحدي .. فشاطريني شجوني
ابعثي في من سناك شعاعا ــــــ إنني تهت في ظلام السنين
انظري لي .. أن الحنين بقلبي ــــ تتراءى ظلاله في جفوني (15)
ويؤكد الشاعر حنينه للمرأة الحبيبة هذا الحنين الذي دفعته إليه الغربة غربة الذات وغربة الجسد وكلتاهما حركتا في أعماقه مشاعر الأمل باللقاء ونشبتا في قلبه عن بقايا لذكريات دفينة كل ذلك دفع به ليصرخ بأعلى صوته معلنا هذا الحنين إلى الحبيبة كلما تذكر الأهل والوطن .
حبيبة لا تتركيني لليل ــــ كئيب .. وفجر شحيح السنا
ولا تسلميني لدرب الضياع ـــ ولا تكليني لجرح الضنا
أنا وفلول من الذكريات ـــ وصمت المساء وبقيا المنى
أحن إليك حنين الغريب ـــ إذا ذكر الأهل والموطنا (16)
وطبعي أن يكون الانتماء إلى تراب الوطن أهم بواعث الحنين عند الشعراء عامة وعند القصيبي خاصة فقد عشقه بكل أبعاده وسماته بعد أن سلم العيش مغتربا والجري اللاهث وراء المدنية الزائفة والتقدم المادي الكاذب .، يقول من قصيدة حب للبحرين ( 17)
بحرين ! هذا أوان الوصل فانسكبي ــــ عليّ بحرين من دور ومن رطب
تنفسي في شجوني .. وادخلي حرقي ــ واسترسلي في دمائي .. واسكني تعبي
وسافري في عيوني يا معذبتي ـــ بالهجر .. يا ظمأى المعطاء .. يا سغبي
يا فرحتي .. ورياح اليأس غاضبة ـــ يا نشوتي .. حين يذوى موسم العنب
يا ضحكتي والدموع الحمر تعصرني ــ يا واحتي وهجير القفر يعبث بي (18)
والقصيبي من الشعراء السعوديين بل الخليجين القلائل الذي استطاع أن يصور حنينه وغربته وقلقه النفسي أصدق تصوير ، " بل هو من أقدر الشعراء الشباب على تصوير تلك النزعة الرومانسية من حنين وغربة وقلق في أسلوب يجمع بين رصانة القديم وأصالته وإيقاعه الشجي وشفافية العبارة وحداثة بنائها وقدرتها على الإيحاء وبمستوى فوق المستوى الأول للمعنى والصورة " (19) ، ومن النماذج الشعرية الوجدانية التي واءم فيها القصيبي بين الأصالة والمعاصرة إلى جانب ما تحويه من شوق وحنين قوله من قصيدة بعنوان : أغنية للخليج (20) من البسيط :
أتيت أرقب ميعادي مع القمر ـــــ يا ساحر الموج والشطان والجزر
هديتي رعشتا شوق .. وقافية ـــــ حملتها كل ما عانيت في سفري
أتيت أمرح فوق الرمل .. أنبشه ـ عن ذكرياتي القدامى عن هوى صغري
خليج ما وشوش المحار في أذني ـــ إلا سمعتك صوتا دافئ الخدر
ولا ترنم ملامح بأغنية ـــــ إلا وضحت أغاني الغوص في السهر
حتى أتيتك فامسح بالنسيم على ـ آهات جرحي ورش الموج في شرري
ـــــــــــــــ
1 ـ د . عبد الله الحامد : الشعر الحديث في المملكة ص 312 .
2 ـ القصيبي :المجموعة الشعرية الكاملة ص 147 .
3 ـ د . محمد غنيمي هلال : الرومانتيكية ص 55 .
4 ـ جليلة رضا : مقدمة ديوان شعاع الأمل لصالح العثيمين .
5 ـ المجموعة الشعرية الكاملة ص 782 .
6 ـ القصيبي : ورود على ضفائر سناء ص30 .
7 ـ المجموعة الشعرية الكاملة ص72 .
8 ـ المرجع السابق ص323 .
9 ـ القصيبي : عقد من الحجارة ص 20 .
10 ـ المجموعة الشعرية الكاملة ص 788 .
11 ـ المرجع السابق ص 206 .
12 ـ نفس المرجع ص 206 .
13 ـ نفس المرجع ص 114 .
14 ـ د . عبد القادر القط : الاتجاه الوجداني في الشعر العربي
المعاصر ص 466 .
15 ـ المجموعة الشعرية الكاملة ص 118 .
16 ـ نفس المرجع ص 30 .
17 ـ نفس المرجع ص 33 .
18 ـ نفس المرجع ص 807 .
19 ـ د . عبد القادر القط : مرجع سابق ص 467 .
20 ـ المجموعة الشعرية الكاملة ص 330 .
الحلقة الثالثة
الهروب من الواقع المرير :
لم تكن ظاهرة التشاؤم ، والهروب من الواقع المزري ، والفرار إلى العزلة والانطوائية ، والانطلاق إلى عالم الرؤى والخيال والأحلام من الظواهر التي يتفرد بها القصيبي ، وإنما هي سمة عامة وقاسم مشترك كغيرها من الظواهر الأخرى التي تحدثنا عنها أنفا ، والتي سنتحدث عنها لاحقا بإذن الله ـ عند كثير من شعراء التيار الرومانسي العربي ، وقد تنبه الباحثون إلى شيوع هذه الظاهرة عند الشعراء فقال أحدهم ، " ولا نغلو في القول بأن الرومانسية هي حركة تشاؤمية ، كانت تلحف بذكر مظاهر الشؤم والعقم في الوجود ، وتستطلع آيات النعي في كل مطلع ، ونكره الوعي والصيرورة ، وتهرب من مواجهة الواقع في عالم الحلم والذكريات " (1)
ويمكننا أن نلمح ظاهرة الحروب والإحساس بالتشاؤم عند القصيبي في قوله من قصيدة بعنوان " أغنية في ليل استوائي " (2)
أتيتك صحبتي الأوهام والأسقامُ ..
والآلام .. والخورُ
ورائي من سنين العمر..
ما ناء به العمر
قرون .. كل ثانية
بها التاريخ يحتضر
وقدامى
صحارى الموت .. تنتظر .
وحول هروب الشعراء الرومانسيين إلى الأحلام يحدثنا أحد الباحثين قائلا " والحقيقة أن اللجوء للأحلام عند الرومانسيين سببه الرئيسي يكمن في كونهم يحصرون أنفسهم في الداخل من البداية ، العالم الداخلي عندهم بداية ونهاية ، وسيلة وغاية ، وهذا يجعل الكاتب منهم يلجأ بالضرورة إلى قوقعته ينسج فيها الأحلام التي تحقق له البعد عن الخارج ، أي عالم الواقع . ويظل هكذا منطويا على نفسه مستغرقا في التفكير في ذاته ليس غير " (3) . وما قاله الباحث ينسحب على القصيبي ، إذ نلمح في الكثير من قصائده حب العزلة والانطوائية ، استمع إليه يقول :
سأكتم حبك بين الضلوع
وأحيا أناجيه في وحدتي
وإن سألوني :
" أما من حبيب لديك يبادلك ..."
سأصرخ :" إني وحيد .. وحيد
بلا ذكريات " (4) .
والقصيبي تتنازعه الحيرة حينا ، والضياع النفسي والكتابة حينا آخر . فيحاول الهروب من واقعه المؤلم المليء بكل متناقصات الحياة ، من زيف ونفاق ، وخداع ، ولكن إلى أين فلا يدري ، وإن كان يراوده أمل بالرحيل نحو الأمل ، يقول :
أريد أن أمضي بعيدا بعيد
خلف الغيوم البيض ..خلف النجوم
أريد أن أجتاز هذي الحدود
أريد أن أنسى الدُنا .. أن أهيم
لأين ؟ لا أدري ولكني
أريد أن أمضي بعيدا بعيد
أريد أن أرحل نحو الأمل . ( 5)
وتشتد تلك الروح التشاؤمية عند الشاعر ، فتطبق عليه وتهاجمه جحافلها من كل جانب ، فقدره مسود كشعر حبيبته ، وروحه هائمة حائرة ، وجسده متعب عليل من عناء الرحلة في عالم مزيف ، بحثا عن الحقيقة ونشدانا للمثالية ، ولكن هيهات أن يلتقيا في عالم أثقلته الآثام وكبلته الشرور يقول : " من الكامل "
قدري كعينيك أو كشعرك أسود ـــ روح محلقة وجسم مجهد ( 6)
يومي بألوان المرارة مترع ـــــ ويكاد يغرق في مرارته الغد
يأوي العذاب إلى جفوني مثلما ــ يـأوي إلى الوطن الرؤوم مشرد
حيران بتهم في الضلوع وينجد ــ ويلوب في جنبي الضياع مسافرا
اما العالم المثالي الذي ينشده الشاعر ويهرب إليه يصوره في هذه الأبيات قائلا : من البسيط .
أريده عالما لا يستبيح دما ـــــــ ولا ينقل في أوزاره القدما
أريده بسمة . لا تعرف الألما ـــ أريده ضحكة .. لا تذكر السأما
أريده دون خوف.. دون عاصفة ــ سوداء تنشر ليل الرعب والعدما
أريده يعرف الإنسان يعشقه ـــــ أريده يمنح المحروم ما حرما
أريده يمنح الأعمى نواظره ـــــ ويمنح الطفلة المشلولة القمما(7)
وقد تمكنت النزعة التشاؤمية من الشاعر حتى جعلته يفر أحيانا إلى الماضي حيث الفطرة التي لم تفسدها المدينة أو يطلب الموت " أحيانا أخرى " لأنه السبيل الوحيد إلى التحرر والخلاص من قيود الواقع المرفوض يقول في الحنين إلى الماضي : من البسيط .
سمراء ! عشرون من عمري تعاتبني ـــ فأينا أجدر الخلين بالعتب (8)
سمراء ! هل يرجع الماضي إذا رجعت ـ رؤاه تخطر بين القلب والهدب ؟
وهل يعود إذا عدنا له زمن ــــ من البراءة ... منقوش على الحقب ؟
وهل أعود صبيا كله خجل ؟ ـــــــ وهل تعودين بنتا حلوة الشغب
ومن ظواهر الهروب من الواقع أيضا الحنين إلى أيام الصبا والشباب وهو شعورا يعاود الشاعر كلما أخذ يرى بياضه الشيب قد بدأ يغزو مفرقه وأصبح وقع الأربعين والخمسين من السنين ثقيل على النفس إذا يوحي بالصراع بين الأنا والهموم والحزن والكتابة ويشعر بأن العمر أوشك على النهاية ويعود الشاعر القهرية إلى أيام الصبا وفورت الشباب يقلب صفحات ذكرياته ليعزي بها النفس ويخفف من قلقها وآلامها يقول :
عدت كهلا تجره الأربعون ــــ فأجيبي : أين الصبا والفتون( 9)
ملء روحي الظما ... فأين عذارى ــ وبقلبي الهوى فأين الجفون
عدت بحرين .. لا الفؤاد فؤاد ـــ مثل أمسٍ .. ولا الحنين حنين
عدت والشيب بارق عبر فودي ــــــ وعلى مقلتي غيم هتون
وفي حوار بين الشاعر وابنته يبوح فيه بتحسره على الماضي وخوفه من الحاضر المؤلم والمستقبل الخؤون وقد حاصرته السنون وأوسعته الأيام حربا تستنزف ما تبقى لديه من عزيمة يقول :
يا دميتي ! حاصرتني الأربعون مدى ــ مجنونة...وجراحا أدمت العمرا(10)
فمن يرد لي الدنيا التي انقشعت ـــــ ومن يعيد لي الحلم الذي عبرا؟
ما الشيب أن تفقد الألوان نضرتها ـــ الشيب أن يسقط الإنسان منحدرا
وما بكيت على لهوي ولا عمري ـــــ لكن بكيت طهري الذي انتحرا
وفي طلب الموت يقول : من البسيط
مات الصبي الذي قد كان يسكنني ـــ وكنت أسكنه ..والكائنات لنا (11)
مات الصبي فلا شعر ولا فرح ـــــ ليولد الكهل دنياه أسى ووني
أقول والألم المعطاء يشنقني ـــــ أقول لو تسمعين الشجو والشجنا
أريد أن تمنحيني الموت والكفنا ــــ فقد منحتك عمري والشباب أنا
على أن الرومانسية ليست هروبا من الواقع ,بقدر ما هي طموح ورسم لعالم جديد , يشعر فيه الفرد بالرغبة في التحرر والانعتاق من بعض القيود الاجتماعية والضغوط النفسية والانطلاق إلى عالم رحب فسيح ينشد فيه الدعة والراحة والطمأنينة عالم يخلو من الزيف والنفاق والخداع وهي الاختصار" أشبه ما تكون بمرحلة المراهقة في حياة الأمة ، حيث أحلام اليقظة ، واضحة الخيال ، وتقديس العواطف , وشرنقة الذات تلتف حول نفسه " (12) .
رابعا ـ الهروب إلى الطبيعة :
أحس الشاعر الرومانسي بالقلق وشعر بالحزن ، فهرب من محاصرة الكتابة إلى الطبيعة ، يتغنى بها ، وبجمالها ، وافتنانها ، وسحرها ، هجر المدينة بتصنعها ، وتكلفها وضوضائها ، وأسوارها وأنطلق إلى عالم فسيح رحب يبثه همومه وشكواه ويبني فيه أكواخ حبي وعشقه ، ويتعلم فيها حكمة القدر ، ويقرأ على صفحات أوراقها ما لم يقرأه في جدر المدينة وأسوارها . وآلاتها الصماء وينعم فيها بحفيف أشجارها . ورقصات أغصانها ، وتناغم طيورها ، وصخب أمواجها ، وخرير جداولها التي أثارت في نفسه أشجانا وذكريات ، وحركت في أعماقه لواعج الشوق فهو في حنين دائم إليها . يقول : من الخفيف
يا سرابي الوحيد طال بي السير ــــ وحيدا... وضقت بالصحراء (13)
حن عمري الشقي للواحة الخضراء ــــــ للأغنيات .. للأنداء
ولا يكتفي الشاعر بالحنين إلى الواحة وما يظللها من خضرة وارفة . ومياه ساحرة . بل يعاوده الحنين أحيانا إلى حياة الصحراء . حياة الفطرة والحب .والوداعة , فهو يحن إلى ليلها , وقمرها , وطيب شذاها المنبعث من نوار العرار والخزامى فيقول : من الوافر
ودعت إليك يا صحراء
ألقى جعبة التيار
أغازل ليلك المنسوج
من أسرار
وأنشق في صبا نجد
طيوب عرار
وأحيا فيك للأشعار والأقمار (14) .
وتعتبر الطبيعة , وذكريات الماضي , من الظواهر الماضية الأساسية في الشعر الرومانسي عامة , لذلك يقول عنها " دايتش daiches " " لقد تجلى المذهب الإبداعي في مظهرين بارزين الرجوع إلى الماضي وذكرياته واتخاذه مثلا أعلى , واللواذ إلى الطبيعة , والاتصال, بها , بل الاندماج فيها " (15). وعندما لا يجد القصيبي واحته الحقيقية ، واحة الطبيعة الخلابة ، ليلوذ بها من واقع مؤلم قاس ، وحياة ملؤها الشقاء والهموم والأسى ، يهرب إلى واحة الحبيبة ، ينشد فيها الحب والأمان والراحة من هم ثقيل ، يقول من ( الخفيف) :
يا أعز النساء! همي ثقيـل ـــــ هل بعينيك مرتع ومقيل ؟
هل بعينك حين آوى لعينيك ــــ مروج خضر وظل ظليل ؟
هل بعينيك بعد زمجرة القفر ــــ غدير .. وخيمة .. ونخيل؟ (16)
والطبيعة عند الرومانسيين بمثابة الأم الرءوم تحنو عليهم ، وتغمرهم بظلها وظليلها ، ودفئها وحنانها ، فينداحون في أغصانها ، ويتلاشون في عناقها وحبها ، ولا يفرق بينهما إلا صوت العقل ، وقلما يوقظهم هذا الصوت يقول في قصيدة "غريب! غريب! غريب " (17) من (المتقارب) جمع بين عشيقتين الطبيعة والحبيبة في عقد من الدرر:
ذكرتك عند البحيرة ..
حيث تسير القوارب..يسبح سرب
من البط والبجع المتبختر..حيث
تنام السماء على خضرة الأرض..
تستغرب الأرض من زرقة السماء ـ
هل تذكرين البحيرة حين يطل عليها
الرفيق الأنيق الرقيق الوسيم
البعيد القريب ، القمر ؟
وهل تذكرين البحيرة والصبح يمشي
وئيدا وئيدا .. لكيلا يروح آخر حلم
غفا فوق مقلة آخر حسناء من
عاشقات البحيرة ؟
وفي أحيان كثيرة لا يكتفي الشاعر بالجمع بين الطبيعة والحبيبة ، بل يصل به الأمر إلى حد المزج بينهما ، متخذا من المرأة / الحبيبة باعثا على التغني بالطبيعة " إذ غدت المرأة بعد أن استقلت الفنية والاجتماعية المنظار الذي يرى الشاعر من خلاله بقية الأشياء خاصة الطبيعة / الأم . ولولا المرأة ما كان يمكن أن يرى الشاعر أو يحس بجمال الكون والحياة من حوله " (18) .
استمع إليه يقول مازجا بين الحبيبة والطبيعة ، (من السريع):
لا تغضبي! ما الكون أن تهجـري ــ وما رفيق الأمل المسكر ؟ (19)
وما المنى . وخما نشيد الهـوى ؟ ــــ وما رحيق الكوثر الخير
وفيم يسرى في الرياض الشـذى ؟ ـــ وفيم يحلو البوح للأنهر ؟
وفيم يشدو بلبل في الربــــا ؟ ــــ وفيم تعلو ضجة السمر؟
ويتنامى هذا المزج لتصبح عيون الحبيبة هي الطبيعة ذاتها ، فيهرب لائذا بها . يقول (من السريع أيضا) (20) :
أمرح في عينيك .. أمشي على ـــ الرمال كالطفل ..ألم المحــار
أقطع المرجان ..آوى إلـــى ـــ كهفي الذي يحوي كنوز البحار
أشارك النــورس آفاقـــه ـــ حينا .. وأغف في ظلال القفار
واتبع الدلفين فــــي رحلة ـــ حدودها شواطئ لا تــــزار
ومن ظواهر الهروب من الواقع أيضا الحنين إلى الطفولة ، وهي ظاهرة بارزة في شعر القصيبي . فقد أثقلت الحياة وهمومها كاهله ففر إلى عالم الطفولة ، وتقمص تلك المرحلة البريئة من مراحل نمو الإنسان لعله يجد فيها ما يخفف عن نفسه آلام الواقع القاسي وينسيه أحزانه وكآبته التي ما فتئت تطارده في كل مكان .
يقول مخاطبا الصحراء ، ملقيا بنفسه على صدرها ، وكأنها الأم الحنون التي تحتضن طفلها بعد هجر وطول غياب ، هذا الطفل الذي أعوزه دفء الأم وعطفها ، وحب الناس وحبها ، وقد رجع يجر أذيال الهزيمة من معركة الحياة التي خاضها بسيف المشاعر والأحاسيس يقول : من الوافر :
وعدت إليك يا صحراء (21)
على وجهي ، رذاذ البحر
وفي روحي سراب بكاء
...
رجعت إليك مهموما
لأني لم أجد في الناس
من يؤمن بالناس
رجعت إليك محروما
لأن الكون أضلاع
بلا قلب
" رجعت إلى يا طفلي ؟ "
أجل .. أماه .. عدت إليك
طفلا دائم الحزن
تغرب في بلاد الله ..
وتمثل الطفولة عند الشاعر مرحلة من مراحل العمر البريئة النقية من كل الشوائب ، فلا مكر ، ولا خبث ، ولا دهاء ولا تدنسها الغرائز التي تفرزها سنون الشباب وأيام الكهولة ، ولا تصبغها هموم الحياة وآلامها بأصباغها السوداوية لذلك يجد الشاعر فيها رمز الوداعة والأمان ، فيتمنى لو عاد طفلا لا يشغله ما يشغل الكبار من هموم الدنيا ، ولا يدنسه ما يدنس وجداناتهم من آثام ، ومن هنا لا نجده يحن إلى الطفولة فحسب ، بل ويتمنى لو عاد طفلا ويموت طفلا يقول: من الرجز (22)
لو مرة نقول : ( لا )
نطهر من نفاقنا
نموت كالأطفال أبرياء
وفي قصيدة أخرى نجده يعتب على الزمان الذي سلب منه طفولته ، وأخذ معها كل ما هو جميل عزيز على نفسه ، وترك له وحشة الكهل ، وشراسة الإنسان يقول : من الخفيف
ثم جاء الزمان يسرق مني ــــ الأعز .. الأعز .. من أصفيائي
نهب الطيش .. والتشرد في ــ الأحداق والغوص في جفون الظباء
قتل الشعر والقوافي .. فما أنطق ــــ إلا بغصـــة خرساء...
أخذ الطفل من ضلوعي .. وأبقى ـــ وحشة الكهل في ليالي الشتاء ( 23)
والقصيبي من الشعراء الرومانسيين الذين حاولوا الفرار من الواقع المؤلم الحزين ، إلى عالم المثل والخيال ، فلم يجد إلا عالم الطفولة الواسع الرحب البريء (24) يلوذ به وينفث فيه آهاته الحرّى ، فيطلب من حبيبة العمر ورفيقة الدرب أن يفرا إلى روضة الطفولة يمرحان ويلهوان ولو ساعتين وكفى يقول من المتقارب :
نفر فديتك ! نحو الطفولة (25)
لو ساعتين
فنأكل في الشمس تفاحتين
وألقى عليك بفزورتين
ونغرق .. نغرق في ضحكتين
نفر فديتك ! نحو الطفولة
لو ساعتين
وإن ضاع منا طريق الرجوع
نهيم على وجهنا ليلتين
ونغرق .. نغرق في ضحكتين
خامسا : الهروب إلى ساحة الحب :
تعتبر ظاهرة الهروب إلى أحضان الحب الدافئ وإفراغ الشعراء عواطفهم الملتهبة فيها من الظواهر الرئيسية إلى جانب الطبيعة في الشعر الرومانسي بوجه عام . إن الطبيعة والحب ليسا بجديدين على الشعر العربي ، " لكن الجديد فيهما ، أنهما يمتزجان بوجدان الشاعر امتزاجا يكاد يتحد فيه الوجود الخارجي بالوجود الداخلي ، فتحتمل التجربة دلالات أرحب من الدلالات المألوفة في التجربة العاطفية التقليدية ، ويصبح للشعر مستويان : أحدهما مرتبط بحدود التجربة في الواقع الخارجي ، والآخر ناطق بأشواق الإنسان العامة ، وإحساسه بالكون والحياة والمجتمع " (26) .
والحب عند الرومانسيين يتجاذبه نوعان من العواطف ، نوع يشكل فيه الحرمان والهموم والأشواق أساس التجربة الشعورية حزينة باكية ، يائسة تظللها أشواقه وتهويماته في سماء الحب : يقول القصيبي ( من الخفيف ) :
روعة الحب في العذاب وفي الحرمان ـــ ما شئت عذبيني واحرميني (27)
وهذا اللون من الحب يعد في نظره ضربا من الوهم يصعب تحقيقه ، كما هو انعكاس لحالة نفسية قاهرة ، وعاطفة ملتهبة جامحة يقول من الخفيف : (28)
يا ابنة الوهم ! إنما أنت في ــــ دنياي حلم على جفوني محرم
كل حظي من الهوى نظرات ــــــ دامعات .. وخافق يتألم
وشفاه تململ الشوق فيها ـــــــــ فأبت إن تبوح أو تتكلم
وفراغ يعربد اليأس فيه ـــــــــــ وليال رهيبة كجهنم
ويقول من قصيدة أخرى من الخفيف أيضا : (29)
فوق أفق الخيال .. فوق حدود ـــــ الشعر ما تبعتينه في دمائي .
لهب عاصف يؤرق روحي ــــــــ وغيوم تثور في أجوائي
ونتيجة لتك لعواطف المكبوتة التي تحركها عواطف الحرمان ، تلونها حالته النفسية لخطوطها السوداء ، ويلفها اليأس بضبابيته القاتمة يتساءل الشاعر عما إذا كانت الحبيبة ستشاركه هذا الشعور وتحس بما في داخله من وجد وأرق وشوق وصبابة يقول من نفس القصيدة :
أتحسين يا فتاتي بما في ــــــ نغمي من صبابة وشقاء ؟
من بعيد يأتيك في هدأة الليل ــــ حنينا مروع الأصداء (30)
وحنين لا يجد الشاعر استجابة حقيقته من المرأة / الحبيبة لتشاركه همومه . ، وعواطفه ، ونشوته وصبابته يستسلم لليأس ، والانطواء ، ويكتم به في داخله ، يقول من المقارب :
سأكتم حبك بين الضلوع (31)
وأحيا أناجيه في وحدتي
وإن سألوني : أذقت الهوى ؟
سأصمت في حيرة الجاهلين
وإن سألوني " أما من حبيب "
لديك يبادلك " القبلات ؟ "
سأصرخ : " إني وحيد .. وحيد
بلا ذكريات " .
ورغم يأسه واستسلامه للوحدة والعزلة ، ورغم كتمان حبه بين ضلوعه ، فإن بارقة من أمل تلوح في سماء أشواقه فتنير قلبه ، وتفتح أمامه دروبا جديدة لحياة مليئة بالأماني . يقول من المتقارب :
أراك وراء ليالي الجفاف ـــــ خيالا يموج بشتى الصور(32)
ففي ناظريك أماني الحياة ــــــ وفي شفتيك ابتسام القدر
وألمح وجهك عبر الفضاء ــــــ يضيء بها لآته كالقمر
غير أنا الحبيبة تبقى عنده حلما مستترا يبحث عنه على أمل اللقاء به . يقول :
أحن لطيفك عند الشروق ـــــ وأشتاق خطوك عند السحر (33)
فأينك ؟! أين ترى توجدين ؟ ــــ وفي أي أفق بعيد السفر ؟
ومن أنت ؟ يا من وهبت الشباب ـ لها .. وهي حلم نأي واستتر
فتاة الخيال ! لنا موعد ـــــــ أعيش على يومه المنتظر
ولكن أي يوم هذا الذي ينتظره الشاعر ليلتقي فيه الحبيبة ، وقد نأت عنه ووقفت دونها حواجز الواقع الاجتماعي ، لتحول دون تحقيق اللقاء ، وتعود إليه أصداء أغانيه خيبة أمل مرة ، وإحساسا قاتلا بالحرمان واليأس والفشل . فالحب في نظره وهم كبير ، وضرب من الخيال ، بل عاد كذبا وخداعا ونفاقا ، لذلك يطبب من الحبيبة أن تقطع ما بينها وبينه من أواصر المحبة والوجد والهوى . يقول من الرجز :
صديقي ! انفضي يديك من هواي ( 34)
من عمري الشريد .. من أيامي العجاف
من دمعة فاض بها صباي
من لوعة تحضنها دماي
لا تسألي " ألم تزل تحبني ؟!"
فالحب يا صديقتي وهم كبير
ويقول في قصيدة أخرى من الرمل :
أيها الحب لقد آن الفراق ــــ لم يعد في قلبي الدام