نقطة فاصلة لا تخطئها أعين السكان والمسافرين علي طريق القاهرة الإسكندرية الزراعي . المكان كتب بالدم جزءاً أساسيا من تاريخ مصر عبر قرن كامل منذ إنشاء السجن في 1908 علي مساحة عشرة أفدنة أهداها الخديو عباس حلمي لرئيس وزرائه الجديد . فصاحب القرار بطرس باشا غالي أحد أشهر رموز فترة الاستعمار الإنجليزي . الباشا الذي بدأ وزارته بإنشاء سجن دمنهور ونفسه الباشا الذي تلقي عدة رصاصات مزقت رقبته علي يد إبراهيم الورداني أحد رجال المقاومة الوطنية في 20/2/1910 يقع سجن دمنهور حاليا علي بعد 165 كم من القاهرة و45 كم من الإسكندرية مكونا من 12 عنبراً خصصت الداخلية 5 منها للسياسيين و3 للجنائيين وافرغ عنبران في مؤخرة السجن للنساء وآخر للتأديب احتوي علي زنازين انفرادية متقابلة . ويحيط بالمكان من الخارج سور حجري مزود بنقاط حراسة مكثقة ويرتفع لـ 6 أمتار . يليه من الداخل علي مسافة 10 أمتار سور داخلي مكهرب ومزود بالأسلاك الشائكة بارتفاع 5 أمتار .
لا يختلف سجن دمنهور عن أي سجن تقليدي في مصر سوي في نوعية المعتقلين . فالسجن منذ نشأته لم يقتصر علي الجنائيين وحدهم . فكان إحدي محطات تجميع الشيوعيين عام 1951 و1959 علي التوالي ونقلهم لسجون أكثر شراسة وحرفية مثل أبوزعبل وطرة والواحات . أيضا استعملت الداخلية سجن دمنهور كمحطة لتجميع معتقلي الإخوان عام 1954 . فمنه بدأ الاخوان والشيوعيون أطول رحلة اعتقال في تاريخ كل منهما.
تغير وجه السجن منذ 1974 ليصبح بتعليمات شفوية حكرا علي الجنائيين فقط . التعليمات التي انطلقت من وزير الداخلية في ذلك الوقت ممدوح سالم . ظل المكان علي حال كسجن جنائي حتي وصل لكرسي الوزارة اللواء زكي بدر في 28/2/1986 . ليفتتح عهده بحملة شرسة ضد المعارضين من كافة التيارات . وقتها فتحت الداخلية جميع السجون دون استثناء . فحشر المعتقلون من كافة التيارات السياسية داخل زنازين دمنهور .
ظل السياسسيون يتدفقون علي سجن دمنهور العمومي في جو امتلأ بالإحباط والدم .. ومن الإسكندرية لأسوان ظهرت طوابير من المعتقلين التي حصل منها سجن دمنهور علي نصيب الأسد . فكان مقرا لأغلب قيادات الصفين الثاني والثالث بالجماعة الإسلامية منذ أواخر الثمانينيات . فيما أفرغت سجون العقرب والوادي الجديد والفيوم وبعض أقسام أبوزعبل الصناعي لقيادات الصف الأول ومسئولي الخلايا العسكرية .
سجن دمنهور: صفقات وتعذيب وحملات تفتيش
كان رحيل زكي بدر عن وزارة الداخلية خبرا استقبله الجميع بفرحة سرعان ما تلاشت . فخلفه علي الكرسي جاء محمد عبد الحليم موسي الذي عقدت الوزارة في عهده اتفاقيات من نوع خاص مع خارجين علي القانون خاصة في الصعيد وكذلك مع أبناء العائلات الكبيرة للقضاء علي بؤر الإرهاب في الجنوب . خاصة بعد أن استفزت حملات الوزير السابق وممارسات الوزير الحالي داخل السجون خلايا الجماعات المنتشرة في الصعيد .
جاءت حوادث ديروط 1993 لتضع أول المسامير في نعش موسي . من ناحية أخري كانت نهاية وزير الصفقات علي يد الصحافة . ففي 4/4/1993 اجتمع الوزير مع قيادات سلفية وعرض عليهم التوسط لدي أمير الجماعة الإسلامية لوقف الصدامات المسلحة في الصعيد . وصل الخبر للصحافة علي الفور فانتهت حياة موسي الأمنية بعد 5 ساعات من النشر بقرار رئاسي .
كانت وزارة الداخلية علي موعد مع حسن محمد الألفي وزيرا للداخلية . تناسي الألفي صفقات سلفه السرية وقرر الاعتماد علي المثقفين بدلا من البلطجية وتجار المخدرات . فبدأت حملة إعلامية استخدم فيها جهاز الدولة جنوده ومثقفيه ومشايخه ضد الجماعات الإسلامية . من ناحية أخري فتح الألفي الباب لإعادة السجناء السياسيين لسجن دمنهور العمومي وانتقل مقر أمن الدولة بالمدينة ليشرف بشكل صارم علي السجن الذي ضم قيادات الجماعة الوسطي .
وحسب شهادة محمد عبد السلام عسران أحد المعتقلين السابقين بسجن دمنهور " كانت فترة الألفي كابوساً دائماً للجميع . فالتعذيب حتي الموت والصعق والتعليق وانتهاك العرض كانت وسائل ضباطه . من ناحية أخري كان للألفي خطة حصار محكمة أثرت كثيرا علي الهاربين . فمكاتب أمن الدولة المنتشرة بالجمهورية كان لديها تفويض كامل بتعذيب أهالي المطلوبين خاصة النساء لدرجة هتك العرض . حتي يسلم المطلوب نفسه طواعية لجهاز الأمن الذي كان يتلكأ غالبا في الإفراج عن الأهالي " يضيف عسران الذي اعتقل 11 سنة " قبض علي الآلاف من شباب الجماعات بهذه الوسيلة . أغلبهم غير منتم لأي تيار جهادي أوإسلامي وبدأت حفلات التعذيب في سجن دمنهور تبدو كأنها تعذيب للتعذيب . فلم تكن هناك اعترافات مطلوبة فجميعنا لم نحمل سلاحا ولا حتي " سكينة مطبخ " والأمن يعرف ذلك . فغالبية العناصر المسلحة كانت إما مقتولة أومعتقلة . ولم يتبق في الخلايا سوي عدد قليل جدا من الأفراد الذين فقدوا القيادة والتمويل وغلب عليهم الذعر والإحباط"
اللافت أن هذه الشهادة تكاد تتطابق مع شهادة أخري حصلت عليها «البديل» من أحد المعتقلين المفرج عنهم عام 2004 من سجن دمنهور - تحتفظ الجريدة باسمه - حيث وصف الحالة داخله بأنها " تصعب علي الكافر " مضيفا " كنا ننام بالتناوب خمسة خمسة في زنزانة مساحتها 3 متر × 3 متر ذات حوائط أسمنتية سميكة . يفتحها نوبتجي من الجنائيين يوميا لمدة 5 دقائق لإخراج الفضلات ثم تغلق مرة أخري علي من فيها . وفي ايام التفتيشات كانت الكلاب البوليسية تقف علي الباب ويخرج المعتقلون عرايا كما ولدتهم أمهاتهم لتتشممهم الكلاب وسط ضحكات الضباط وضرب العساكر فتزايدت حالات الجنون وانتشر الجرب وسط المعتقلين لدرجة أن بعض الأخوة كان يسب الجماعة ليل نهار في الزنازين المجاورة لعدة أيام كي تسمح إدارة السجن وتطلي جسده بمادة بيضاء لزجة تشبه الجير لمنع الجرب من الانتشار" .
في 1995 كان سجن دمنهور قد امتلأ عن آخره تقريبا بالمعتقلين السياسيين وبدأت بوادر التمرد في الظهور خاصة مع سوء الأوضاع هناك وضيق المكان . فجاء قرار الألفي بتوصية من مساعده في ذلك الوقت حبيب العادلي بتغريب المعتقلين وإخلاء دمنهور خاصة من العناصر القيادية وحصر المعتقلين السياسيين داخله علي المشتبه فيهم فقط منعا لظهور احتجاجات قوية بدأت ملامحها في التشكل كما حدث في سجن ليمان أبوزعبل واستقبال طره . وبالفعل توقفت طوابير الذاهبين لدمنهور حتي مايو1997 . حين بدأ الألفي يشعر بالخطر من سيطرة حبيب العادلي علي ملف معتقلي الجماعة الإسلامية . فأمر بعودة المعتقلين لدمنهور مرة أخري في مايو1997 ليقطع الطريق علي صفقات العادلي والقيادات التاريخية للجماعة .
فقه المبادرات : منصة وميكروفونات ومياه معدنية
جاءت حادثة الأقصر 1997 لتطيح بالألفي بشكل مهين وكان من الطبيعي أن يصعد العادلي الذي جمع خيوط ملف الجماعات في بيده وبدأ أمام الدولة المذعورة من تكرار الحادث المنقذ الوحيد . اتبع العادلي طريقه المفضل .المفاوضة بلا نهاية علي كل شيء ومع الجميع في وقت واحد . ورغم نجاح العادلي في جمع توقيعات 6000 معتقل علي إقرارات التوبة إلا أنه بعد تولي الوزارة أمر بتمزيق الإقرارات والبدء من جديد . فظهرت خطة المبادرة لتسلك طريقها من سجن العقرب لباقي السجون . وسط ذعر حقيقي ساد بين المعتقلين بعد تعرضهم لحملة تغريب شرسة استمرت 3 سنوات منذ حادثة الأقصر وحتي عام 2000.
كان سجن دمنهور إحدي المحطات التي تعثرت فيها المبادرة بشكل كبير . فقبل حضور فقهاء جهزت إدارة السجن المكان والبشر أيضا . يقول محمد عسران " ظهرت بوادر هجمة غير مفهومة من إدارة سجن دمنهور وبدأت الإشاعات تسري بأن هناك مخططاً لقتل الجميع . فالتفتيش لمرتين أسبوعيا مع تعرضنا للضرب المبرح وتكرار ذكر عبارات " هاندفنكم هنا " من قبل ضباط أمن الدولة بالسجن فأحس الجميع أن الموت مسألة وقت . فبعد كل حملة كان المعتقلون ينادون علي بعضهم عبر " نظارة " الزنزانة ليحصوا الأحياء والمصابين تحسبا للأسوأ " .
ورغم أن أنباء قليلة انتشرت في سجن دمنهور عن المبادرة إلا أن أحدا لم يكن يتوقع نجاحها خاصة وسط إجراءات أمنية من هذا النوع . لكن العنف الأمني الذي طال جميع المعتقلين في دمنهور - حسب شهادة عسران - وضع حاجزا نفسيا بين قيادات الصف الثاني وبين المعتقلين . فبدأ بعضهم يتطلع لتدخل قياداته في السجون الأخري . وبالفعل عزلت إدارة السجن قيادات الجماعة الوسطي في عنابر التأديب وبدأت قبل زيارة المشايخ بقليل في تجهيز المكان لاستقبال القيادات التاريخية للعنف بفكرها " النيولوك " .
يقول أسامه عبد العظيم القيادي بالجماعة الإسلامية في مذكراته المنشورة علي الموقع الرسمي للجماعة عن رحلة الشيوخ لسجن دمنهور " مكث شيوخ الجماعة في سجن دمنهور أسبوعين كاملين لم يذوقوا فيها طعم الراحة ليلا ً ولا نهارا ً .. فالجميع منهمك في شرح وتوضيح أبعاد المبادرة .. وكل واحد منهم التف حوله جمع من الإخوة ، فيه وما بين إجابة سؤال، أوتوضيح غموض ، أوحل مشكلة، أوإزالة لبس " يضيف أسامة " لم يكن الأمر سهلا ً كما يتصور البعض .. فأصعب شيء علي النفس أن تواجه بأخطائها وعيوبها ، وأن تراجع مسيرتها بصدق شديد وتجرد تام .. كانت الحوارات جد ساخنة .. وكان حدة المناقشات تعلو وتارة وتنخفض أخري " .
كانت زيارة القيادات التاريخية للجماعة لسجن دمنهور حدثا دراميا بكل المقاييس فإدارة السجن التي كانت قبل أسبوع واحد مجموعة من " الكفرة حلال دمهم وجهادهم فرض عين علي كل مسلم بلغ الحلم " حسب ما كتبت نفس القيادات تحولت في كلمات ناجح إبراهيم نجم المبادرة في دمنهور إلي " إخوة لنا نعذرهم ويعذروننا " حسب ما نقلته شهادات المعتقلين السابقين للبديل .
يقول علي سالم أحد المفرج عنهم مؤخرا من السجن " في دمنهور كانت معركة بالمعني الحرفي .. وسامح الله مشايخنا وقادتنا فلم يكن ماحدث نفس ما ذكره الشيخ أسامة . فطوال أسبوعين والإخوة قلقون من صفقات بين بعض التيارات داخل الجماعة والأمن . كنا قلقين من المبادرة لانها لم تكن المرة الأولي التي يضحي فيها من أفتي وحمل السلاح ضد الدولة بالمعتقلين في دمنهور . فهناك عرفنا من خلال المناقشات مبكرا معني النيولوك" .
جلس المشايخ علي المنصة مع مأمور السجن وأمامهم زجاجات المياه المعدنية والميكروفونات . فيما افترش آلاف المعتقلين الارض في انتظار كلمة المشايخ . التي بدأت بدعاء ردده ناجح إبراهيم وأمن خلفه المعتقلون جميعا . ثم بدأ ناجح في عرض استراتيجية الجماعة الجديدة قائلا حسب موقع الجماعة " أطلقنا المبادرة حقنا ً لدمائكم ودماء المسلمين في مصر .. حفاظا ً علي الأنفس أن تهلك في غير ميدان ، أوتقتل في غير مصلحة .. رأبا ً للصدع ، وحماية للحق ، وبداية لفجر جديد وفرج كبير .. طلقنا المبادرة صونا ً لحرمات البيوت والأسر المسلمة أن تتهدم وتفريجا ً لكرب آلاف المعتقلين " بعد انتهاء كلمة ناجح إبراهيم بدأت معركة الجميع ضد الجميع لصالح الداخلية . فغالبية أعضاء الجماعة في دمنهور لم يروا قياداتهم التاريخية مطلقا وأول لقاء جمع المعتقل مع أميره تم تحت مظلة الأمن وداخل سجن وبانقلاب كامل علي كل ما كتبته القيادات وآمن به المعتقلون .
في الفترة ما بين 2004 و2006. خرج مع آمن بالمبادرة كما آمن بالمشايخ قبل ربع قرن . وبقي في الداخل 3000 آخرون من الذين اعتقلوا بالاشتباه ورفضت القيادات التاريخية الإجابة عن اسئلتهم حول المبادرة ورفض الأمن الإفراج عنهم فظلوا حتي الآن في سجن دمنهور العمومي بلا مشايخ ولا مبادرات ولا تهمة