عبدالناصر رفض الانسحاب منها لكى لا يفقد «برستيجه» واضطر إليه بعد ضياع سيناء والقدس والجولان
الجندى فى المعركة، لا يعرف إلا ما يتلقاه من أوامر، لكن أثناء الخدمة الليلية كثيراً ما يراجع نفسه ويتأمل ماذا فعل اليوم وماذا سيفعل غداً، فماذا كان يقول الجندى المصرى لنفسه، وقت أن كان يحارب فى اليمن؟
«حرب اليمن» كثيراً ما نسمع هذه الجملة، كأحد أسوأ قرارات ثورة يوليو 1952، ويأتى ذكرها دائماً مقرونا بالخسائر المادية والبشرية التى تكبدها الشعب دون أن يعرف لماذا؟
«شابتاى شافيت» رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلية «الموساد» أدلى بحديث لصحيفة هآرتس الإسرائيلية فى 21 فبراير 2000 قائلاً: إن إسرائيل لها دور كبير فى توريط مصر فى حرب اليمن لإضعاف قدرتها الاقتصادية والعسكرية كما أنه أصدر أوامره لضباط «الموساد» بمعاونة قوات الإمام بدر الملكية حتى يستعيد حكمه الذى أطاح به الثوار عام 1962، وأرسل عسكريين إسرائيليين لتدريب قوات الإمام وللتعرف على القوات المصرية عن قرب، وهذا التصريح هو ما يجعل الدخول فى هذه الحرب لا ينفصل عن هزيمة 67 بل من الممكن اعتبار المعركتين اللتين دخلهما الجندى المصرى فى اليمن وسيناء معركة واحدة متعددة الهزائم، لكن كيف كان هذا وما هى تفاصيله وكيف بدأت المعركة؟
الحرب بدأت بانقلاب عسكرى فى اليمن يوم 26 مايو 1962 على يد العميد عبدالله السلال الذى أطاح بنظام الإمامة، بعد ذلك بيومين وسارع جمال عبدالناصر بالاعتراف بالنظام الجديد وفى اليوم التالى أصدرت مصر بياناً حذرت فيه القوى الأجنبية من التدخل ضد نظام الحكم الجديد.
السلال طلب من مصر أن تساعده عسكرياً وسياسياً فقرر عبدالناصر التدخل المباشر لمساندته وفى 27 سبتمبر 1962 أرسلت مصر كتائب صاعقة وسرب طائرات معادلة لقذف القنابل والصواريخ، فقد أعتقد جمال عبدالناصر أن قرار التدخل العسكرى السريع فى اليمن يمكن أن يمنع احتمالات التدخل الخارجى المضاد.
محمد حسنين هيكل فى كتابه عبدالناصر والعالم ص 47 يذكر أن عبدالناصر ذكر للثائر الشيوعى «جيفارا» فى نقاش معه سنة 1965 أنه وجد نفسه يهب لمساعدة الثورة اليمنية عندما نشبت «ومع أننى تلقيت من التقارير ما يفيد أن الوضع هناك غير صالح للثورة فقد قلت مثلك إنه مجرد أن الثورة قامت فإن ذلك يؤلف عنصرا وضعيا فى حد ذاته وبالتالى يجب مساعدتها».
صلاح نصر - رئيس جهاز مخابرات عبدالناصر - قال: اليمن كانت بالنسبة لنا مجاهل لا نعرف معالمها»، لكن عبدالناصر وجد فى التدخل العسكرى فى اليمن عملاً يستعيد به توازنه ويرد إليه اعتباره بعد انهيار الوحدة بين مصر وسوريا مما سدد ضربة عنيفة إلى وضع القيادة المصرية للعالم العربى.
النظام الجديد فى اليمن هو ما اتفقت عليه كل من السعودية والأردن وقبلت الأولى «الإمام البدر» لاجئا فى أراضيها وصرحت بتصميمها القاطع على مساعدته فى استرداد الحكم لأنها اعتقدت أن عبدالناصر يسعى إلى الحصول على موطئ قدم فى شبه الجزيرة العربية ليطيح بالحكم السعودى.
أما الملك حسين فقد أرسل ستين ضابطا أردنيا لمساعدة الإمام بدر وأنشأت السعودية والأردن قيادة عسكرية مشتركة انتقلت إلى منطقة نجران فى جنوب السعودية فردت القيادة المصرية على ذلك بإرسال وحدات عسكرية متكاملة إلى اليمن للدفاع عن الثورة.
على المستوى الدولى اعترفت الولايات المتحدة فى 19/12/62 بالنظام الجمهورى ولكنها عارضت التدخل المصرى العسكرى فى اليمن والتزمت بالدفاع عن السعودية، أما بريطانيا فقد أعلنت فى فبراير 1963 عدم الاعتراف بالنظام الجمهورى، وقدمت مساعدات عسكرية لـ «الإمام البدر» واعترف الاتحاد السوفيتى بالجمهورية اليمنية فى 1 فبراير 1962 لكنها لم تعط تأييدها الصريح لعبدالناصر، وقدم الروس مساعدات للثورة اليمنية لاستبعاد السيطرة والنفوذ الغربيين من الشرق الأوسط.
عبدالناصر كان يتوقع أن مهمة قواته فى اليمن ستنتهى فى فترة زمنية قصيرة، وكان من المخطط استخدام لواءين من المشاه فى تحقيق هذه المهمة، لذا تم دفع مشاه فى 28 فبراير 1962 ثم تبعه لواء مشاه آخر، وتم تعيين أنور السادات مسئولاً سياسياً عن اليمن لتخطيط ودراسة المساعدات السياسية والعسكرية العاجلة لدعم الثورة الوليدة وذلك لضعف المعلومات لدى عبدالناصر عن اليمن وضم إليه الدكتور البيضانى والقاضى الزبيرى كما عين أعضاء عسكريين يمثلون القيادة العسكرية العليا وهم العميد على عبدالخبير والعميد طيار مهندى نوح ومقدم من الصاعقة وتوجه أعضاء هذه اللجنة فوراً إلى اليمن وعادوا باقتراحات عسكرية أساسها دعم سريع بكتائب صاعقة وسرب طائرات معاونة واستطلاع جوى ويقول الفريق فوزى فى مذكراته إن عدد أفراد هذه القوة كان لا يزيد على ألف وأن مهمتها ستنتهى فى خلال ثلاثة أشهر.
شيئاً فشيئاً أصبحت اليمن «فيتنام» عبدالناصر الذى أشار عليه السادات فيما بعد بتوسيع حجم العمليات العسكرية المصرية فى اليمن، فحمَّله عبدالناصر بعد ذلك مسئولية هذه «الورطة».. لكن هناك شبه إجماع من المؤرخين على أن عبدالناصر هو المسئول الأول عن قرار التدخل وذلك لدوره المحورى فى صنع القرار فى كل المجالات وبخاصة فى السياسة الخارجية وقد أكد هذا الدور دستور 56 و58 و64 وكانت المؤسسات الأخرى «مجلس الأمين والاتحاد الاشتراكى - مجلس رياسة مجلس الوزراء - وزارة الخارجية» هامشية، فاقدة التأثير، لذلك كانت عملية صنع القرار بين يدى عبدالناصر وحده، تخضع لفكره وإرادته ومهمة الجيش تنحصر فقط فى التنفيذ.
القوات المصرية المرسلة إلى اليمن أخذت فى التزايد وهذا ما صرح به عبدالناصر فى خطابه يوم 23 ديسمبر 1962 «يوم 5 أكتوبر كان لنا مائة صف ضابط وعسكرى بس اللى بعتناهم يوم 9 أكتوبر بقوا 500 يوم 16 أكتوبر بقوا ألفين يوم 10 أكتوبر بعتنا أول قوة من سلاح الطيران، طيارتين وقعدنا تقريباً لغاية آخر أكتوبر ومعانا الألفين وهى القوة اللى تساند السلال بعد كده طبعاً بعتنا قوات ثانية».
ادراك القيادة المصرية للموقف اليمنى تغير كثيراً بعد زيارة عبدالحكيم عامر الثانية لليمن 15 ديسمبر 1962 - الزيارة الأولى فى أكتوبر 1962 - أما عبدالناصر فقد أيقن أن المعركة ليست قصيرة وأن حجم القوات المصرية محدود.
«عامر» أراد أن يصل حجم القوات المصرية إلى عشرين ألف مقاتل ووصلت أول التعزيزات فى فبراير 1963 ولم يؤد ذلك أيضاً إلى إحراز نصر نهائى.
عبدالناصر زار اليمن فى الفترة من 23 إلى 29 أبريل 64، وسعى فى زيارته إلى مصالحة القوى المتصارعة داخل النظام الجمهورى، وفى أعقاب هذه الزيارة تدفقت القوات المصرية إلى اليمن حتى وصل عددها فى أغسطس 1965 إلى سبعين ألف مقاتل.
وكان عبدالناصر على علم بموقف القوات فى اليمن فعندما تقابل مع الفريق أنور القاضى - قائد القوات المصرية فى اليمن - فى نهاية مايو 1963 شرح له الصورة الحقيقية للموقف هناك وأقترح سحب القوات المصرية من اليمن بأسرع ما يمكن لتدهور الموقف اليمنى فى السيطرة على القبائل ولكن عبدالناصر قال له كما ذكر الفريق القاضى فى حديثه لمجلة آخر ساعة 8 يونيو 1988 - «الانسحاب بقواتنا مش ممكن فمعنى كده انهيار ثورة اليمن.. والعملية سياسية أكثر منها عسكرية أنا باعتبر إننا وجهنا ضربة مضادة لضربة الانفصال فى سوريا ولا يمكن أن نترك اليمن».
هذا ما قاله الفريق عبدالمحسن مرتجى قائد القوات المصرية فى اليمن بعد الفريق أنور القاضى عن عبدالناصر: «لم يكن يهتم سوى بشكله وهيبته»، وأكد «مرتجى» فى حديثه مع الصحفى إبراهيم حجازى 22 أبريل 2008 أن عبدالناصر «كان يرسل أموالاً من خزانة الدولة إلينا حتى ندفعها للقبائل اليمنية وعندما طالبنا بالانسحاب من اليمن لأن الخسائر أصبحت كبيرة قال: «مش ممكن ننسحب our prestige هيضيع».
عدم حسم الحرب أدى إلى موافقة عبدالناصر على جهود الوساطة العربية لإنهاء النزاع فى اليمن حتى إنه قد اجتمع مع الملك فيصل فى جدة فى 23/8/1965 ووقع معه اتفاقية جدة، والتى تعتبر انتصاراً لوجهة النظر السعودية ونصت الاتفاقية على انسحاب القوات المصرية، ثم تقرير الشعب اليمنى لمصيره، ووقتها أصر عبدالناصر على أن يكون تقرير المصير عن طريق استفتاء شعبى وليس عن طريق أهل الحل والعقد من كبار شيوخ القبائل.
الأمم المتحدة ومعظم الدول رحبت بنتائج اجتماعات جدة، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتى، والأردن، والعراق، وغيرها من الدول العربية والإسلامية، وكانت سوريا هى الاستثناء الوحيد، حيث كانت فى ذلك الوقت تعانى بمرارة من حملة «كراهية عبدالناصر» حيث اتهمت عبدالناصر بالقيام «بوأد الثورة اليمنية بخسة» وقد كان البعث السورى خلال تلك المرحلة يشكل أشد خصوم عبدالناصر خبثاً وكراهية.
بعد مؤتمر جدة بدا أن حرب الأشقاء على وشك الانتهاء، والأكثر من ذلك بدا أن علاقة عبدالناصر بالملك فيصل تتجه إلى التقارب الشديد، وفى 10 أغسطس 1965 زار «فيصل» القاهرة فاستقبله «ناصر» بحفاوة بالغة وبعد أيام ألغى أمر مصادرة ممتلكات أفراد الأسرة المالكة السعودية الموجودة فى مصر وكان قد تم فرضها عام 1962 عندما تفجرت الندوة الأولى لحرب اليمن.
بمشاركة مصرية سعودية تم فى 24 أبريل 65 عقد مؤتمر للمصالحة بين الفرقاء اليمنيين وانتهت أعمال المؤتمر ولم يتخط اليمنيون نقاط خلافتهم الأساسية، وبدأت القوات المصرية انسحابها من اليمن، إلا أنها توقفت فجأة فى فبراير 1966 عندما أصدرت بريطانية كتابا «أبيض» أشارت فيه إلى أن القوات البريطانية سوف تنسحب من عدن بحلول عام 1968 فعمل عبدالناصر على ملء الفراغ الذى سينجم عن انسحاب البريطانيين.
استراتيجية جديدة توائم بين الاعتبارات الاقتصادية والاعتبارات العسكرية هذا ما أعلنه عبدالناصر فى مارس 66 وأطلق على هذه الاستراتيجية «النفس الطويل» وقد كان عبدالحكيم يشيد دائماً بهذه السياسة ودفاعاً عن هذه الاستراتيجية سحب عبدالناصر كل قواته المنعزلة والمتفرقة وجمعها فى مواقع يسهل السيطرة عليها، وأعلن أن اتفاقية جدة لم تسفر عن النتائج التى كان يتوقعها، ولهذا فإنه لا يستطيع أن يتخلى عن الثورة اليمنية حتى ولو ظل فى اليمن لخمس سنوات أخرى.
العداوة احتدمت مرة أخرى بين «فيصل» و«عبدالناصر»، فقد أعلن عبدالناصر فى 23 مارس 1966 إنه إذا ما تحرك أى فريق من أتباع الإمام عبر الحدود السعودية إلى اليمن فإن القواعد الموجودة فى كل من جيزان ونجران ستقصف بالقنابل - فعزز الملك فيصل دفاعاته الجوية - وعمل على إنشاء مطار جوى بالقرب من الحدود اليمنية وقدم مساعدات هائلة إلى أتباع «الإمام بدر»، وحدث انشقاق خطير داخل معسكر المشير السلال بسبب سياسته القمعية، ووصل عدد المنشقين إلى أكثر من ألف شخص يقودهم الشيخ عبدالله الأحمد وأصبحوا يشكلون فيما بعد قوة ثالثة تعمل من مدينة خمر فى منطقة حاشد، واهتم عبدالناصر بهذه القوة الثالثة وأمر قواته باصطياد أكبر عدد من شخصياتها البارزة وأما الملك فيصل فتوقع أن «القوة الثالثة» يمكنها فى المستقبل حكم اليمن.
الغارات الجوية من القوات المصرية تكررت فى مرة أخرى على مواقع الإمام، بل إنها امتدت فى 14 أكتوبر 1966 لتشمل قصف جيزان السعودية، وعندئذ قرر «فيصل» أن الوقت لم يعد ملائما لاستمرار السلام مع عبدالناصر، بعد أن حدثت مجموعة من الانفجارات خلال شهر ديسمبر 1966 فى أغلب المدن السعودية، وشملت المنشآت العسكرية والدوائر الحكومية والقصور الملكية، كما تم توزيع منشورات معادية لفيصل بالمملكة تحمل اسم منظمة «اتحاد شعب الجزيرة العربية» وكانت تذيع بياناتها من راديو القاهرة، وفى 11 مايو 67 ضربت القوات المصرية نجران وجيزان بالسعودية، وتردد وقتها أن ناصر استخدم الغازات السامة فى هجومه، مما أدى إلى وقوع الكثير من الضحايا. المثير أنه أثناء هذه الأحداث بدأ عبدالناصر يعد لمواجهة مع إسرائيل فاقت حرب 5 يونيو 1967.
العمليات العسكرية المصرية فى اليمن لم تتوقف، لكنها قلَّت وتم تعيين قائد جديد للقوات المصرية فى اليمن هو الفريق عبدالقادر حسنى، وقرر عبدالناصر سحب قواته بعد انعقاد مؤتمر الخرطوم فى 9 أغسطس 1967 ووافق فى 15 ديسمبر 1967 وأعلن الملك فيصل دعم مصر فى مواجهة إسرائيل وتخلى عبدالناصر عين المشير السلال - الذى كان ألعوبة فى يده وأيد انقلابا عسكرياً قام ضده فى 5 نوفمبر 1967.
فقد أخطأ عبدالناصر فى بداية الثورة عندما وقف ضد القيادات الثورية اليمنية واصطدم بها وهى نفس القيادات التى ساندت الثورة فعندما اختلفت هذه القيادات مع السلال بسبب ميله نحو الحكم المطلق تصدى لها عبدالناصر بل وصل الأمر إلى اعتقالهم فى السجن الحربى بالقاهرة وهم اللواء حسن العمرى والزبيرى والقاضى أحمد محمد النعمان والقاضى عبدالرحمن الأريانى الذى أصبح رئيسا لليمن بعد خروجه من المعتقل فى مصر - وأصبح اللواء العمرى رئيسا للوزراء خلال شهر ديسمبر 1967.
فساد فى الجيش، هزيمة فى الحرب، فرقة بين العرب، ضياع «الهيبة» و«البرستيج» خسارة ملايين الجنيهات، خمسة آلاف قتيل مصرى، آلاف الجرحى والمشوهين والعاجزين، مائة ألف قتيل يمنى، شلل فى الاقتصاد المحلى، أزمات داخلية وخارجية، كوارث على كل الأصعدة، هذا ما مثلته حرب اليمن فى تاريخنا المصرى والعربى، كللت بهزيمة جيشنا فى 67، فهل كانت النكسة الشهيرة هى حرب الأيام الستة، أم حرب السنوات الخمس؟