القلب يصح ويمرض :
لقد دلّ كتاب الله وسنة رسوله على أن القلب يصح ويمرض كما قال i :]يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [ (57) سورة يونس فبين i في هذه الآية أن القرآن الكريم وهو (الموعظة) شفاء لما في الصدور أي(القلوب) فإذا كان لها شفاء فإن ذلك يدل على أنها تمرض وأن القرآن يكون لها شفاء بإذن الله .
وقال تعالى: ]يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[(89) سورة الشعراء والقلب السليم: هو القلب الصحيح المعافى والسالم من الأمراض سواء كانت أمراض الشهوات أو أمراض الشبهات .
وقال الله تعالى عن المنافقين:] فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً [([1]) .و قال تعالى: ]لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [ ([2]) وقال تعالى: ] يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [ ([3]) . وقال تعالى: ] لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً [ ([4]) .
وهذا المرض لا يزول ولا يعالج إلا بالأدوية الإيمانية النبوية كما قال تعالى:]يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [ ([5])
وقال تعالى: ]وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [ ([6]) . وصحة القلب ومرضه لا تقتصر على القلب ذاته ولكنها تؤثر على الجسد كله كما قال : (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) رواه البخاري حديث رقم 52 ، ومسلم حديث رقم 4850
وهذا المرض هو كغيره من الأمراض، له علامات وأعراض، وله جوالب وأسباب وله سبل للوقاية والعلاج. فنعرض لهذه الأقسام بالتتالي:
العلامات والأعراض الدالة على مرض القلب:
1- فقدان الشهية: فإن القلب له غذاء كما أن للجسد غذاء، فغذاء القلب ذكر الله من قراءة للقرآن وتسبيح وتهليل وتحميد وتكبير وسائر أنواع العبادات فإذا مرض القلب لم يجد مساغًا للقرآن والذكر ومتى ما صح تلذذ بها، بل ولا يكاد يشبع منهما.
2- الضعف عن القيام بالطاعات: فكما أن الجسد إذا مرض خارت قواه وضعف. فكذلك القلب المريض لا يقوى على الطاعات فتكون عليه كالجبال ومن أشق الأعمال، كما قال تعالى في الصلاة: ] وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [([7]) والخاشعون هم أصحاب القلوب السليمة الصحيحة وأمّا أصحاب القلوب المريضة فإنها تكون عليهم كبيرة أي شاقة لضعف قلوبهم بسبب ما فيها من المرض.
3- الاشمئزاز عند ذكر الله والفرح والاستبشار والسرور عند اللهو واللغو والباطل كما قال تعالى: ] وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [ ([8]) .
فصاحب القلب الذي فيه مرض يأنس ويطرب للمجالس التي تكون بالساعات الطوال وتدار بغير ذكر الله ، ويهيم أصحابها في أودية الدنيا. فإذا حضر محاضرة أو موعظة يذكر فيها الله تضايق وقال بلسان حاله:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل --- بصبح وما الإصباح منك بأمثل
4- الأنس بأصحاب الذنوب والمعاصي: ومحبتهم والوحشة من الصالحين ومجالستهم عياذاً بالله.
5- البهجة والسرور والراحة عند دخول الأسواق ومنتديات اللهو واللعب ونحوها، والضيق والحرج والتململ عند دخول المساجد والمنتديات الإيمانية.
6- عدم الشعور بجراحات الذنوب والمعاصي: فيكذب ويترك الصلاة ويزني وهكذا ثم لا يجد وخز الضمير فإذا كان في القلب حياة وجد لذلك أثرًا بحسب ما فيه من الحياة.
ثانيًا: جوالب وأسباب مرض القلب:
1- إهمال وضعف الغذاء الروحي: واستبدالها بالأغذية الضارة فيترك الطاعات من فرائض وواجبات، ومستحبات ومندوبات، ويفتح على قلبه من الذنوب والمعاصي كثيرًا من القنوات، ويجعل له فيها صولات وجولات.
كما قال الشاعر:
رئيتُ الذنوب تميت القلوب --- وقد يــــورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب --- وخـــير لنفســك عصيانها
2- الفتن سواء كانت فتن شهوات أو شبهات:
كما في حديث حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : ((تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب اشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مرباد كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض )) .([9]) .
3. فضول الكلام: والمقصود بفضول الكلام أي ما ليس له حاجة، فإن الإكثار منه سم من سموم القلوب قال ابن القيم رحمه الله تعالى: سموم القلوب أربعة: فضول الكلام وفضول النظر، وفضول الطعام، وفضول المخالطة ([10]) .
وقد أرشد النبي إلى خطورة كثرة الكلام فيما لا ينفع فقال: كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت )). ([11]) .
وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ((كنت مع النبي في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال لقد سألتني عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير؟ :الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار وصلاة الرجل من جوف الليل قال ثم تلا ]تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ _ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[(16،17) سورة السجدة ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروت سنامه ؟ قلت بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه قال كف عليك هذا فقلت يا نبي الله وإنا لمؤاخذون مما نتكلم به ؟ فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)) ([12]) .
4 - فضول النظر:
كما في الحديث: ((والنظر سهم مسمون من سهام إبليس، فمن غض بصره لله أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه )) ([13]) .
وقال تعالى: ] قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [ ([14]) .
((وإطلاق البصر يلبس القلب ظلمة، كما أن غض البصر لله عز وجل يلبسه نــورًا، وقد ذكـــر الله عز وجل آية النور ( الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ) (6) بعد قوله ] قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [ ([15]) وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية، كما أنه إذا أظلم أقبلت إليه سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان )) ([16]) .
فمن غض بصره عن الحرام نور الله بصيرته، ومن أطلق نظره في الحرام أعمى الله بصيرته وأمرض قلبه عياذًا بالله.
5- فضول الطعام:
فكثرة الطعام تميت القلب وهي رأس كل داء كما قال النبي : ((ما ملاء ابن آدم وعاءً شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبة، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه )) ([17]) .
وقال إبراهيم ابن أدهم: ((من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع قريبة من الشبعان ))([18]) .
6- فضول المخالطة:
والناس في هذا الباب أربعة أقسام:
القسم الأول: من مخالطته كالغذاء لا يستغني عنه في اليوم والليلة وهم العلماء والصالحون.
القسم الثاني: من مخالطته كالدواء لا يأخذه الإنسان إلاّ عند الحاجة فقط وبقدر محدود وهذا الصنف من الناس هم ما لابد لك من مخالطته كزملاء العمل ومن تتعامل معهم في بيع وشراء ونحو ذلك. فإذا قضيت حاجتك التي لابد منها معهم فعجل بتركهم اللهم إن كانوا من الصنف الأول.
القسم الثالث: من مـخالطته كالداء.
وهم من يجاهرون بمعاصيهم ويتبجحون بذنوبهم فهذا الصنف لا تخالطه مهما كلفك الفرار منهم فإن مخالطتهم تقسي القلب نسأل الله السلامة والعافية.
القسم الرابع: من مخالطته الهلاك الذي لا نجاة بعده .
وهؤلاء هم الكفار وأهل البدع.
كان الإمام أحمد إذا رأى الكافر يغمض عينيه فلما سئل عن ذلك قال النظر إليهم يميت القلب.
ثالثًا: سبل الوقاية والعلاج:
1- ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن.
2- الاستغفار والتوبة النصوح.
3- الدعاء والتضرع إلى الله تعالى.
4- الصلاة على النبي .
5- قيام الليل وكثرة مناجاة الله تعالى.
6- تجنب مواطن الفتن ومحاضن الفساد.
وختامًا نسأل الله تعالى أن يمن علينا بشفاء قلوبنا وصحة أبداننا وذهاب أسقامنا اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وبغض إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
رب هب لي حكمًا وألحقني بالصالحين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم، ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم