تعليق على قصيدة قمر العواصم للشاعر لوركا
أخي لوركا
تحية لشخصكم الكريم ، وهنيئا لك على هذه الرائعة ، التي صدرت عن حس شعري مرهف وتجربة ومعاناة قاسية ، عكست ما بدواخلك وما تحمله من هموم الوطن وجراحاته ونزفه الذي لا ينقطع .
أخي الكريم لقد سعدت بقراءة خطابك الشعري ، والحق أقول إنه من أجمل ما قرأت على صفحات المنتدى ، مع كثرة القصائد الجميلة التي تركت في نفوسنا أثرا لا يمحي من الذاكرة .
وجمال هذه القصيدة ينطلق من مرتكزات عدة يمكن الإشارة إلى بعضها في هذه العجالة لضيق الوقت فأرجو المعذرة .
فالقصيدة عبارة عن شريط سينمائي ـ إن صح التعبير ـ تنقلنا من صورة إلى صورة ، ومن مشهد إلى مشهد ، ومن دفقة شعورية إلى أخرى تعززها وتشد من بنائيتها ، برزت من خلالها موسيقا خارجية متمثلة في هذه الألفاظ والتراكيب المتعانقة ، يعززها روي متناغم ممثل في حرف الراء حينا وفي حرف الدال حينا آخر ، وفي حروف أخرى عندما تتواتر القافية لتتواءم مع الجملة الشعرية التي جاءت لتخدمها ، وإلى جانب ذلك تواصلت الموسيقا الداخلية للنص ممثلة في هذا الانسياب السلس الذي يريح القارئ ، ويجعله منسجما مع القصيدة دون تعثر ، أو عوائق ، إضافة إلى هذه الألفاظ والبنى التي شكل النسيج الخارجي للقصيدة ، وما تحمله تلك الكلمات من دلالات عميقة تجعل من القصيدة بنائية متماسكة ومتلاحمة ، تتمثل في هذه الجمل الشعرية التي تصدر عن دفقات شعورية قوية ومتلاحقة تعكس معاناة حقيقية وتجربة شعورية صادقة .
أما الصور التي نقلها لنا هذا الشريط السينمائي فهي كثيرة ومتوالية ، ولا يكاد تنتهي صورة حتى تردفها أخرى لتغززها ، وتقويها ، ولتجعل من الخطاب الشعري شريطا سينمائيا بحق .
ويمكننا رصد الكثير من هذه الصور التي تطالعنا من افتتاحية النص حتى خاتمته ، ومنها هاتان الصورتان اللتان بني عليهما النص ( في تصوري ) لأنهما ما انفك يظهران إلى جانب الصور الأخرى من حين لآخر .
فالصورة الأولى تتجسد في قولك :
عندما يزهو الحصار
ويستقيم الظل في خشب البنادق
يرسم الطفل جدار
لا تنكسه المشانق
والصورة الثانية تتجلى في قولك :
في زجاج من سكينة
يبدأ الطفل السفر
قبل أن تهوي المدينة
جاء يسندها . .
حجر
ففي الصورتين السابقتين رسمت لنا بريشة الفنان المبدع صورة الطفل الفلسطيني الذي تمازجت في دواخله براءة الطفولة وكبرياء الجرح ، فرسم لنا في عفوية نادرة هذا التلاحم الوطني الصامد الذي لا تزعزعه طائرات العدو ودباباته وكل عدده وعتاده ، لأنه مؤمن بحقه السليب ، وبواجبه الذي يحتم عليه أن يصمد ويصبر ، فلو أجتمع كل بني صهيون لينقصوا من عزيمته بكل ما أوتوا من قوة فلن يستطيعوا ، لأنه صاحب قضية مؤمن بها .
كما أن رحلة الطفل الفلسطيني في الصورة الثانية هي رحلة ، أو هجرة معاكسة ، هي هجرة إلى عمق الوطن ، رحلة الالتصاق بالمدينة ، والقرية ، والمخيم ، رحلة المواجهة مع العدو بكل أبعادها وليست هجرة انتكاس وهروب ، بل هي هجرة داخلية مع الذات المقهورة ، من وطأة المحن ، وعصف الألم المحدق به فيواجه العدو بالحجر .
أما الصورة الثالثة في هذه البنائية المتراصة والمتماسكة والتي تعززت بها الافتتاحية هي قولك :
نخل تشرد في الأماسي والقرى
ماء ( صغير ) السن يغرس جدولا
ويمر فيه إلى طقوس من غياب
كأنها الأرض استراحت
وقد جاءت هذه الصورة لتعكس حال المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية ، وما لحقها من الخراب والدمار ، وكأنها أطلال دارسة عفا عليها الزمن من سنين ، فتشرد النخل واقتلع مع غيره من الأشجار من جذوره دلالة على وحشية العدو التي تطال البشر والشجر والحجر ، رغم أن النخلة هي رمز التجذر في عمق الوطن والذات الفلسطينية ، وشجرة الزيتون رمز السلام والمحبة ، كلها لم تسلم من حقد الصهاينة وحمقهم .
وتتوالى صور القصيدة ، و هي صور متدفقة ثرة ، لا تكاد تمر واحدة حتى تجد أخرى لصيقة بها ولا نستطيع في عجالة أن نرصدها كلها ، وإنما ألمحنا لبعضها ، ومنها قولك :
فأفرغت الهواء من اليمام
وأوصدت من خلفها قوس التراب
ولي وقفة أخري عند قولك ( لا أحدا هناك ) : لا أدري لماذا نصبت اسم لا النافية للجنس وحقه البناء على الفتح لأنه مفرد ، وليس مضافا ولا شبيها بالمضاف .
فنقول : لا أحد هناك . وإذا جعلت ( لا ) حجازية تعمل عمل ليس وجب في اسمها الرفع فتقول :
لا أحدٌ هناك . وليس هذا ما تريد ، لأن النفي بلا التي لنفي الجنس يستغرق جنس اسمها بغير احتمال ، في حين النفي بلا العاملة عمل ليس لا يستغرق كل أفرد اسمها لذا عرفت بنفي الوحدة ، إضافة إلى كون اسمها وخبرها نكرتين مثل : لا رجلٌ مسافرٌ ، وهي تعمل عمل ليس على قلة .
وقولك :
وقرب نافذة المدى
كان الفراغ معلقا
وقولك :
وطفل لا تلوثه البراءة
أو يدنسه حليب
. . .
يستل من تابوته حجرا
ويعلنه مدينة
حقيقة لا يستطيع قارئ النص أن يعطي القصيدة حقها في قراءة عجلى ، إذ لا بد لها من قراءة متأنية معمقة لأن كل كلمة فيها تحكي شيئا ، وتصور حدثا وتروي قصة .
فهنيئا أخي لوركا على هذا الحدس الشعري الوطني الذي انعكس على صفحاته كل المحن والألم والمآسي التي يعاني منها أهلونا في الوطن السليب .