مجموعة من الأشخاص يلبسون الجلاليب، وعلى رؤوسهم العمائم، يتجولون فى مطار القاهرة ويفتشون فى الصالات ويجلسون على مقاعد الانتظار كأنهم فى لعبة الكراسى الموسيقية، ويتفرسون فى أوجه العاملين بتهميش واحتقار، ثم يصعدون إلى إحدى الطائرات ليتفرجوا عليها، وعندما حلا لهم الأمر لم يقدر أحد على إنزالهم منها، ومكثوا فى الطائرة حتى أتى قريبهم «المسئول الكبير فى الدولة»، وأمر أن يظلوا فى الطائرة المتجهة إلى فرنسا، بدون أن يكون معهم جوازات سفر أو نقود أو ملابس.
وحينما فوجئت السلطات الفرنسية بكل هذه الجلاليب والعمائم، لم تفعل شيئا، خشية الصدام مع المسئول الكبير ومع قائده. وفى الحال جاء موظفو السفارة المصرية، ليستخرجوا جوازات مؤقتة وإجراءات استثنائية ليقننوا هذا الوضع الغريب الذى لم يحدث من قبل، ولن يحدث بعد ذلك بالطبع. تلك واحدة من القصص التى رواها لى ضباط سابقين شاهدوا الحادث.
المسئول الكبير كان المشير عبدالحكيم عامر وكان نائبا أول لرئيس الجمهورية وقائدا عاما للقوات المسلحة، ولم يتخل طوال حياته عن أسلوب العمد وشيوخ البلد. ووضع كلا من السلطات المصرية والفرنسية فى حرج بالغ فلم يكن فى الحسبان أن يأتى كل هذا العدد، وما يتطلبه من سيارات وأماكن إقامة، حيث فتح «على شفيق» سكرتير المشير حقائب النقود والعملات الصعبة بدون حساب، لشراء كل طلباتهم بناء على أوامر المشير، وكانت المفاجأة حينما دخل صعايدة قرية «اسطال» بلد المشيرـ إلى محل بيع الدراجات فأعجبوا بها أشد العجب، وقرروا أن يشتروها كلها دفعة واحدة، بالإضافة إلى الكثير من الملابس والمشروبات، مما أدى إلى حدوث أزمة فى شحن «مشتريات الرئاسة». وانتهت الرحلة على حساب الدولة دون رقيب أو حسيب و»لا من شاف ولا من درى».
هذه الحادثة وغيرها تدل على فساد إدارى وسياسى تمرغ فيه معظم ضباط ثورة يوليو،على عكس ما كانوا يذيعونه على الشعب من بيانات تدين الفساد وتحاصر مرتكبيه، وأيضا على عكس ما استندت عليه الثورة وقت اشتعالها، فعندما قامت ثورة يوليو 1952 كان فى مقدمة أسبابها المعلنة كما جاء فى أول بيان أذيع لها، هو هزيمة الجيش فى حرب فلسطين وما تلا ذلك من وضع مقاليد الجيش فى يد من أطلق عليه البيان وصف « إما جاهل أو خائن أو فاسد»، وقد أعلنت الثورة أنها سوف تضع مقاليد الأمور فى الجيش فى يد « رجال نثق فى قدراتهم» وكان عامر ورفاقه هم المقصودين بهذه الثقة.
أول عمل مهم قام به فى تنفيذ هذا الوعد هو وضع قيادة الجيش فى يد رجال ذوى مقدرة، فتم تعيين الصاغ «الرائد» عبدالحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة بعد ترقيته أربع رتب مرة واحدة، فى 19 يونيه 1953، وهو ما لم يكن له نظير فى التاريخ المصرى أو أى جيش «محترم» فى العالم.. فهذا القائد الجديد لم يكن يملك مؤهلات قيادية تناسب مكانة الجيش المصرى وتحدياته، وهو الأمر الذى حصدته مصر مرا وعلقم ودما وهزائم، فى أخطاء وتجاوزات حرب اليمن 64 وهزيمة 67. فكون «عامر» دولة داخل الدولة؛ أكلت الأخضر واستحلت الحرمات وهتكت الأعراض فى جميع أرجاء المعمورة خاصة فى الفترة من (1962-1967).
قبل أن يتم إصدار قرار تعيين عبدالحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة كان نجيب يعلم تماما أن جمال عبدالناصر لن يسمح له بالاحتفاظ بكل السلطات فى يده، فقد حاول أن يبحث عن مصدر قوة ليتحصن به ضد «ناصر»، فلجأ «نجيب» إلى الجماهير، وظهر أمام الناس حاكما بسيطا يمتلك مشاعر أبوية. وحاول أن يكون نسخة معدلة ومحسنة لمصطفى النحاس وقد أكسبه ذلك جماهيرية واسعة. فعمل جمال عبدالناصر على تقليم أظافره بانتزاع قيادة القوات المسلحة منه، فاستقر رأيه على تعيين الصاغ عبدالحكيم عامر زميله وصديق عمره وأقرب زملائه لقلبه، وأكثرهم إخلاصا ووفاء له. حيث كانا يسكنان معا فى شقة واحدة قبل الزواج، وبتعيين عامر قائدا عاما للقوات المسلحة تم اختراق منظومة وطبيعة الهيئة العسكرية، التى كانت ترتكز على أن الأقدمية أمر مقدس لا يجب المساس به.
اختيار عبدالحكيم قائدا للجيش أثار معركة صامتة بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، فعبداللطيف البغدادى اعتبرهامناورة من عبدالناصر لتعزيز نفوذه الشخصى فى مواجهة باقى أعضاء مجلس قيادة الثورة، فعمد صديقه الحميم ولابد أنهما معا سوف يستقويان لبعضهما البعض ضد الجميع وهو ما حدث فعلا.
عبد الناصر كان يدرك أن إعلان تعيين عبدالحكيم بهذه الطريقة، سوف يقابل بالرفض والمعارضة من جانب «محمد نجيب» الذى عاش حياته جنديا معتزا بجنديته، فربط جمال عبدالناصر هذا القرار بقرارات أخرى تكون أكثر جاذبية لاهتمام الناس، تضعف من صلابة المقاومة، عند محمد نجيب وزملائه فى مجلس القيادة.
ومن هنا كان الربط بين ترقية عبدالحكيم قائدا للقوات المسلحة وبين إعلان الجمهورية وتعيين محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر. ولكن محمد نجيب اعترض وبشدة على تعيين عبدالحكيم عامر، المثير للدهشة أن من المئات من أصحاب الرتب الأقدم الذين قفز فوقهم عبدالحكيم عامر لم يعترض أحد منهم بشكل إيجابى، إلا اللواء حسين محمد قائد السلاح الجوى.
أى أن الباقين لم يجرؤ منهم أحد على الاحتجاج، لأن مصير المعترضين السابقين كان معروفا للجميع خصوصا ضباط المدفعية الذين اعتقلوا فى 15 يناير 1953، عندما اعترض البكباشى حسن الدمنهورى على هذا الاعتقال تم اعتقاله فى 17 يناير 1953، وتعرض للتعذيب الشديد وأصدر مجلس قيادة الثورة الذى عقد على شكل محكمة برئاسة عبدالناصر حكما بإعدامه بعد يوم واحد، إلا أن هذا الحكم لم يتم تنفيذه لاعتراض «نجيب»، بعد أن قال إنه لا يريد أن يكون الطريق مفروشا بالدم. فكانت هذه الاعتقالات والأحكام والتعذيب رادعا كافيا لأى قائد بالجيش تحدثه نفسه بالاعتراض على تعيين عبدالحكيم عامر قائدا عاما للجيش، وهو الاختيار الذى يعد مسئولا عنه جمال عبد الناصر.
الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل يقول إن عامر «نصف فنان ونصف بوهيمى، لطيف جدا، عسكرى لا يصلح لقيادة الجيش، تكفيه كتيبة، ولم يكن يقرا أو يتابع الجديد فى فنون الحرب، ولم يكن لديه الوقت ليكون قائدا للجيش، ولقد توقفت معلوماته العسكرية عند رتبة الصاغ، ولم تزد معلومة واحدة حتى مات.
وكان القائد العام يستيقظ بعد الظهر يوميا، وقد ترك أمور مكتبه لشمس بدران، فكما كان سامى شرف معه ختم عبدالناصر لآخر أيامه، كان شمس معه ختم عبدالحكيم منذ أول أيامه، ينقل ويرقى ويسجن من يشاء. وهو ضابط برتبة رائد يمتهن أفراد الرتب الكبيرة، فتضطر إلى تحيته لأنه كان مديرا لمكتب القائد عبدالحكيم عامر، ولم يعد لأى رتبة كبيرة أى أمل فى البقاء فى مراكزها، إلا عن طريق الحصول على مراكز القوى. وتراجعت الخبرة والكفاءة العسكرية فى المقام الثانى.
مكتب المشير كان مسئولا عن شئون الافراد والبعثات والخدمات الطبية وسفر الضباط للعلاج وأمن الجيش، وكانت تتبعه إدارة شئون الضباط والمخابرات الحربية، فضلا عن مسئوليته فى تعيين الضباط فى وظائف مدنية. وانفرد شمس بدران بكل أمور مكتب القائد العام واختصاصاته، فأصبح مكتب المشير مسئولا عن التجاوزات التى وقعت فى الجيش وفى مصر كلها.
الجيش بقيادة عبدالحكيم أصبح مصدرا للقوة والضغط على عبدالناصر، وعلى جميع المسؤلين فى البلد عند اللزوم. ومارس عامر هذه اللعبة عدة مرات وانتصر فيها على عبدالناصر الذى رضى بالهزيمة على مضض، فقد انقلب السحر على الساحر، وأصبح لعامر بعد عام 1962 جزء من المصاريف السرية مثل رئيس الجمهورية تماما، واستمرت سلطته ومسؤليته تجاه القوات المسلحة كما هى. وأصبح عبدالناصر لا يثق فى ولاء الجيش له.
وانشغل عامر وكبار قادة الجيش وأجهزة المخابرات والشرطة العسكرية، والمباحث الجنائية العسكرية فى تصفية خصوم النظام بالداخل والخارج وكان ذلك عاملا قويا للانشغال بعيدا عن مراقبة تحركات العدو واستراتيجياته وخططه، هذا علاوة على الشروخ الداخلية التى أحدثتها هذه الأجهزة، داخل المجتمع المصرى وكان عبدالناصر يشجع هذه الأجهزة التى لم تتجه إلى المواطن المصرى ولا تتسع إلا لقمعه وإذلاله، رغم مئات الملايين التى تم انفاقها على هذه الأجهزة، فقد كان مردودها فى النهاية = صفر، وكان فشلها ذريعا فى تتبع ورصد الأعداء والمتربصين بها وهو حدودنا الشرقية، وكانت خيبتها أشد عندما وقعت هزيمة 1967 والتى كانت إحدى تداعيات تعيين عبدالحكيم عامر قائدا عاما للقوت المسلحة.
من قرية «أسطال».. إلى قيادة الجيش
محمد عبدالحكيم على عامر ولد فى قرية أسطال بمحافظة المنيا بصعيد مصر عام 1919 لأسرة ميسورة حيث كان والده عمدة القرية، وبعد أن أتم دراسته الثانوية عام 1916 التحق بالكلية الحربية وتخرج فيها عام 1938.
وفور تخرجه خدم ضمن قوات الجيش المصرى العاملة فى السودان عام 1941، التقى هناك بجمال عبدالناصر وبدأت صداقتهما العميقة، وشارك فى حرب فلسطين عام 1948 وبعد الحرب نقل إلى أحد مراكز التدريب فى منقباد، ويذهب العديد من المؤرخين إلى القول بأن «منقباد» شهدت البداية الفعلية لتنظيم الضباط الأحرار الذى أسسه عبدالناصر وشارك فيه عامر وهو التنظيم الذى قاد ثورة يوليو 1952 وكان عامر عضو مجلس قيادة الثورة. بعد نجاح الثورة حدثت تغيرات جوهرية وسريعة فتمت ترقيته إلى رتبة لواء، وأوكلت إليه مهمة قيادة القوات المسلحة.
وبعد عام واحد أيضاً عين وزيراً للحربية مع احتفاظه بمنصبه فى القيادة العامة للقوات المسلحة، ثم رقى إلى رتبة فريق عام 1958 وبعد قيام الوحدة مع سوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة منح عبدالحكيم عامر رتبة مشير فى 23 فبراير 1958 وكانت الترقية الأخرى التى رفعته إلى رتبة نائب رئيس جمهورية فى 6 مارس 1958، واستمر فى هذا المنصب حتى أغسطس 1961.
وفى 30 سبتمبر 1962 وبعد قيام ثورة اليمن واعتراف مصر بها ورغبة منها فى تدعيم الثوار الجدد أرسلت جزءاً كبيرا من قواتها المسلحة إلى هناك، وأسندت مهمة الإشراف عليها إلى المشير عبدالحكيم عامر بصفته قائدا عاما للقوات المسلحة وكانت أولى زياراته لليمن عام 1963 وفى عام 1964 شغل منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية العربية المتحدة عام 1964، وفى مايو 1966 تولى رئاسة اللجنة العليا لتصفية الإقطاع وفى 11 سبتمبر 1966 عهد إلى وزير الحربية شمس البدران ببعض اختصاصات القائد العام للقوات المسلحة. وكان على رأس المؤسسة العسكرية حينما وقعت هزيمة يونيو 1967 ودخل مع عبدالناصر فى صراع مرير على السلطة بعد الهزيمة مباشرة وانتهت بانتحاره ودفن فى قريته أسطال.