كشفت الأحداث التي مرت بها لبنان مؤخرًا عن حجم النفوذ والدور الذي تلعبه إيران في هذا البلد العربي, والتي تمتد يدها العابثة رويدًا للدول العربية واحدة تلو الأخرى..فقد اختطفت من قبل سوريا ووضعت يدها على لبنان, ونفوذها الآن لا يخفى على أحد في العراق..وقد جاء الدور فيما يبدو على السودان لينال قسطًا وافرًا من الفوضى الإيرانية...
فقد كشفت مصادر صحفية مصرية عن دور إيراني خطير لدعم المتمردين في دارفور وضرب النظام في السودان, ونقلت صحيفة "الجمهورية" في عددها الصادر بتاريخ (27/5) عن مصادر وصفتها بالمسئولة قولها: إن عمليات فحص الأسلحة التي استولت عليها القوات المسلحة السودانية من متمردي حركة العدل والمساواة في الخرطوم يوم 10 مايو الحالي أظهرت أن بعضًا منها أسلحة حديثة إيرانية الصنع.
وهذا الحادث في قراءته الأولية لم يكن غريبًا على المتابعين للشأن الإيراني من زاوية, ولكنه شكل في ذات الوقت مفاجأة من نوع آخر لهؤلاء المتابعين, ولغيرهم...ووضع علامات استفهام حول دلالاته السياسية.. ويجعلنا أخيرًا نتساءل: هل يمكن أن يكون مجرد "صدفة سياسية" أن تلتقي الولايات المتحدة وإيران في أكثر من ملف عربي كلاهما يسعى لفوضى خلاقة على طريقته ووفق رغبته؟!
كيف يمكن قراءة الحدث؟!
هذا الحدث كما سبق ونوهنا يمكن النظر إليه من زاويتين:
الزاوية الأولى:
لم يكن هذا المسلك من قبل قادة طهران غريبًا لأنه يأتي متوافقًا من السياسة الإيرانية الساعية لدس أنفها الطويل في كل بلد عربي متى سنحت الظروف بذلك, ليس فقط لأغراض التشيع المذهبي, ولكن أيضًا دعمًا لما يسمى بالتشيع السياسي, أي مد جسور سياسية تربط العناصر الموالية في هذا البلد أو غيره بحكم الملالي في إيران, بما يسهل على قادة طهران تسييرها وتوجيهها فيما بعد.
الزاوية الثانية:
أما كونه مفاجئًا من زاوية أخرى, فلكون إيران جد مشغولة بعدة ملفات في غاية الأهمية والخطورة في لبنان وسوريا والعراق, إضافة لملفها النووي المثير للجدل والذي هو محل سجال متصاعد مع الغرب, ولم يكن ظاهرًا في خريطة التحرك أنها تسعى إضافة إلى ذلك للتدخل بمثل هذه الفجاجة والغطرسة في الشأن السوداني, فالمفاجأة إذن في التوقيت فقط وليس في الصنيع ذاته.
دلالات الحدث..فوضى بنكهة إيرانية!!
الزاويتان السابقتان للنظر إلى هذه الواقعة تفتحان مجال الحديث عن دلالات الوجود الإيراني في ملف المتمردين الدرفوريين وربما غيرهم أيضًا مما يبدو خافيًا حتى الآن..فإلى وقت قريب كان ينظر إلى حركات التمرد سواء كانت في الجنوب أو الغرب السوداني على أنها حركات وثيقة الصلة بمخططات أمريكية في المنطقة العربية تأتي في إطار تهيئة البيئة الجغرافية والسياسية لميلاد الشرق الأوسط الجديد الذي يقوم على أنقاض الدول العربية والإسلامية مقسمًا إياها تقسيمات "عرقية نظيفة" سهلة الانقياد غربيًا, تتعايش بصورة طبيعة مع جيرانها اليهود, إذ الكل قائم على عصبية عرقية أو دينية.
وقد ظهرت الأدوار الأمريكية جلية واضحة في دعم الجنوب السوداني ليقفز خارج السلطة السودانية ويشكل حكومة تدير الجنوب وتشارك في حكم الشمال..ودعمها واضح لا ريب فيه في تقوية التمرد الدرفوري غرب البلاد بمساعدة من دولة تشاد التي تشكل الظهير المساند لهذا التمرد والكيان الإسرائيلي الذي لا يبخل بالمدد والدعم على كافة أنواعه.
وفي ظل هذا التآمر الإقليمي والدولي على السودان يأتي "المجوس الجدد" ليحكموا الخناق على هذا البلد العربي, ويكملوا الأدوار الفوضوية التي ابتدعها الأمريكان, في تناغم يوحي بالالتقاء إن لم يكن على تفاصيل المؤامرة على البلاد العربية، فعلى أقل تقدير في خطوطها العريضة التي عنوانها الكبير "الفوضى الخلاقة"..وسواء هي بنكهة أمريكية أو إيرانية.
فالفوضى الضاربة في لبنان والدخان الأسود الذي يخيم على مستقبلها بين الحين والآخر لم يعد خافيًا على أحد أنه "صناعة إيرانية", بعد اعتراف الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله الذي تعودت يداه على صنع الحرائق اللبنانية بانتمائه لنظام ولاية الفقيه الذي يحكم إيران منذ قيام الثورة في العام 1979...
ونرجع إلى ذاكرة التاريخ فنتذكر الوعد الأمريكي بصيف لبناني ساخن, ومن قبله كانت بشارة وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس بأن ما تعانيه لبنان من فوضى هو المخاض الأليم المبشر بالشرق الأوسط الجديد!
والفوضى الضاربة في العراق ما برحت تغذوها الأسواق الإيرانية بالمال والسلاح والمخدرات وغيرها من وسائل تذويب هوية الدولة وكيانها..
ثم نرجع البصر فنجد أن البذرة الأولى لهذه الفوضى قد وضعتها اليد الأمريكية, وما تقوم به إيران لا يعدو أن يكون استثمارًا لهذه الفوضى والقيام على رعايتها حتى تؤتي أكلها الخبيثة, التي تصب في الخزينة السياسية الإيرانية.
والدور فيما يبدو قد جاء على السودان الذي يسير على النسق ذاته..فقد وضعت الولايات المتحدة نبتتها الفوضوية في السودان منذ أمد بعيد, ولما قرب موعد الحصاد امتدت اليد الإيرانية ترعى وتمد جذور الفتنة حتى تستوي على عودها...
هل هي "مجرد صدفة سياسية"؟!
ويراودنا الآن سؤال منبثق من هذه الدلالات السياسية: أهذا كله محض الصدفة؟! قد يبدو كذلك لبعضنا, ممن يأنف من لفظة "المؤامرة" ومشتقاتها, سواء كانت مؤامرة غربية محضة, أم مؤامرة مشتركة ما بين قوى الغربية والإسرائيلية والشيعية..ولكن للكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل كلمة فريدة وجملة بارعة يخلص فيه تجربة حياته الصحفية والسياسية فيقول في عبارة موجزة: "لا صدفة في السياسية"...فلا يمكن أن يكون هذا التلاقي الأمريكي الإيراني هو محض "صدفة بريئة".
إن من حق إيران أن تبحث عن مصلحتها في أحضان "الشيطان الأكبر" أو بعيدًا عنه, وقد لا نستطيع أن نثنيها عن مخططاتها التي تتلاقى وتتقاطع كثيرًا مع الخطوط الأمريكية في المنطقة, ولكن أليس من الفطنة والكياسة السياسية ألا نُخدع بالَتقية الإيرانية بعد أن افتضح أمرها في لبنان والعراق وأفغانستان وغيرها من الدول العربية والإسلامية...
ففي الوقت الذي تتآمر فيه إيران على السودان يبحث مسئولو البلدين إبرام اتفاقية لدفاع المشترك, وتفرش فيه البسط الحمراء للرئيس الإيراني ويستقبل بالأحضان والقبلات في الخرطوم وهو يتأبط شرا!!
وفي كلمتنا الأخيرة نقول: إن إيران وكما يبدو لا تسعى لتشييع بضعة نفر هنا أو هناك ولكنها تسعى لسرقة رأس الدولة ومن بعدها يبدو أمر التشييع ومحاربة السنة أسهل كثيرًا...فهل نستيقظ من الغفلة قبل أن يكمل اللص مهمته غير الشريفة ونبكي على لبن مسكوب؟!